إذا هب الاعصار فالجأ إلى أقرب ميناء.. هذا أقدم قانون بحري والغضب الشديد اعصار يحرص العاقل على ان يصمت خلاله ويستعيذ بالله من الشيطان الرجيم ولا يتلفظ وهو في جنون الغضب وإلاّ فقد يرتكب غلطة العمر.. أكثر حالات الطلاق تقع وقت الغضب!.. وبعضها تكون الطلقة الثالثة مندفعة من مسدس الغضب لتنهدم عش الزوجية وتهد العشرة وتهدر أمان الأطفال.. ثم يشغل هؤلاء الغاضبون المفتين والمحاكم بمحاولة استعادة الزوجة الحبيبة والقول إن الطلاق تم في لحظة غضب مضطرم كالنار! وبعض العصبيين يثور في الراحة، ويغضب بسرعة، ويتلفظ بأبشع الألفاظ وهو كالمجنون، ثم يندم أشد الندم ويحتقر نفسه ويحس بالابر تنغرس في ضميره.. ليست الأحلام في حال الرضا .. إنما الأحلامُ في حال الغضب وقد ورد ان رجلاً غضوباً طلق زوجته التي يحبها طلقة ثالثة، ثم ندم فذهب مع أبيها إلى القاضي الذي أخذ يقلب الأمر لعله يجد له مخرجاً، فقال والد الزوجة: يا فضيلة القاضي هذا غضوب وغضبه يشبه الجنون والقلم مرفوع عن المجنون! فاستشاط الزوج غضباً من جديد ونسي ما جاء لأجله وقال للقاضي: لقد هونت الأمر علينا!.. فقد قضي الأمر..! وكان الأحمق احرص ما يكون على إعادة زوجته وأطفاله وأراد والد الزوجة التماس العذر له أمام القاضي فشبه غضبه بالجنون فثارت نار غضبه من جديد واطلق رشاش الطلاق على حياته الزوجية وخرب بيته بيديه وفقأ عينيه بنفسه كل هذا بسبب الغضب! صار الخطأ.. وشلون؟ ما هو بيدي .. لحظة غضب تفقد بها أعز إنسان والحمد لله رب العالمين، فإن هذا الحناق ينطبق عليه المثل الشعبي: مجنون وطق بعصا والثاني: جا يكحلها فاعماها والمثل العربي: على نفسها جنت براقش..! والله يعافيه ولا يبتلينا! ومن نوادر الأصمعي أنه ذكر للرشيد ان رجلاً غضوباً طلق خمس نساء في يوم واحد بل في خمس دقائق.. فاستغرب هارون الرشيد وقال: وكيف يكون ذلك؟ فقال الأصمعي: كان لهذا الرجل أربع نساء، ورجع لداره يشتعل غضباً فقالت إحدى زوجاته: ما لوجهك مكفهر؟! فصرخ بها: أنت طالق بالثلاث فقالت زوجته الثانية: يا لحمقك تطلق من أجل سؤال؟ فصرخ بها: وأنت طالق بالثلاث! فزعت الثالثة وهتفت: لا تتسرع، فصرخ: وأنت طالق عدد نجوم الثريا! فعجبت الرابعة وقالت:: تطلق ثلاثا في دقيقة؟ فار الدم في رأسه وصرخ: وأنت طالق عدد نجوم السماء! وسمعت جارته ما دار فقالت بصوت مرتفع: قبحك الله ما أشد حمقك تطلق نساءك بلا سبب! فصرخ: وأنت طالق بالثلاث ان أجاز زوجك! فهتف زوجها: قد أجزت! قد أجزت! ونوادر الأصمعي لا تخلو من تأليف وخيال بهدف الطرافة، ولكن تلك النادرة لا تخلو من صحة الدلالة، فإن (الحناق شديد الغضب) يفقد زوجته وأصدقاءه وعمله ومعارفه بسبب نيران غضبه! وقد أوردنا بعض الطرائف لتخفيف نار الغضب، وإذا كان الإنسان غضوباً بطبعه فعليه ان يدرك ذلك ويعاهد ربه ألا يتصرف وقت الغضب تصرفاً يرديه، وألا يطيع هوى نفسه وشيطانه الذي يرقص طرباً وقت الغضب، فيخالف هواه وقت الغضب خاصة حتى يحمد العاقبة..!. قال الشريف بركات: والنفس خالف رأيها قبل ترديك ترى لها الشيطان يرمي بالادراك والمراد برأي النفس هنا هواها وطبعها السيئ وأكثر ما يكون ضرراً وقت الغضب الذي يستغله الشيطان ليردي صاحبه في الدرك الأسفل ما لم يذكر الله جل وعز، ويستعيذ به من الشيطان الرجيم، وبدلاً من ان يتصرف أو يتكلم وهو غضبان يذهب ويأخذ له (دش بارد) فإنه يساعد على اطفاء الغضب الذي هو من نار، والنار تطفأ بالماء.. ويقول دعبل الخزاعي (وقد أجاد في تحذير الغاضب من طلب الشفاء من الغضب بسوء الفعل والقول). متى ترد الشفاء لكل غيظ تكن مما يغيظك في ازدياد إذا لم تتسع أخلاق قوم تضيق بهم فسيحات البلاد والذي لا يتسم بالحلم ولا يعرف التسامح لن يجد السعادة ولن يبقى له صاحب.. لأنه يغضب من أي زلة.. ويعتب على أي خطأ.. فلا يصبر على عشرته بشر.. من طبيعة البشر الزلل والخطأ والنقص بعض الأحيان والغضوب لا يقبل هذا مع أنه أكثرهم زللاً وخطلاً وخطأً ونقصاً، فإذا دام على الغضب والعتاب تركه الناس وحيداً كالغراب.. قال محمد بن مسلم في شعر سهل ممتنع: ومن لا يسامح صاحبه عند زله خلاه صرف البين من غير صاحبه فمن الراي سامح صاحبك ولا تعاتبه إلى زل أو ابطا بشي تراقبه خذ ما تيسر منه واستر خماله الى عاد نفسك في ملاماه راغبه مان كنت في كل المشاحي مو ادب رفيقك ما تلقى الذي ما توادبه