لقد صدرت العديد من التقارير الدولية، العامة والمتخصصة، التي تحدثت عن التداعيات الاقتصادية للأزمة السورية، وانعكاساتها على حياة المواطن السوري، الذي أفقدته الحرب استقراره الاجتماعي، وضربت مقومات عيشه ومصادر رزقه، وهدمت ما جناه في سنين العمر، وأحياناً قلعته عنوة من وطنه الغالي على نفسه، وقذفته إلى مخيمات اللجوء، بعد أن كان آمناً مطمئناً. وقد بلغت خسائر الاقتصاد السوري 103 مليارات دولار، حتى حزيران يونيو من العام 2013، كما وصلت ديون سورية إلى حوالي 34 مليار دولار. وقدرت خسائر العام 2011 بحوالي 12.5 مليار دولار، ثم حوالي 50 مليار دولار عام 2012، وأكثر من 23 مليار دولار في الربع الأول من عام 2013، وأكثر من 17 مليار دولار في الربع الثاني منه. إن الأزمة التي تمر بها سورية قد عكست نفسها على نحو حاد وخطير على الاقتصاد الوطني، ودمرت الكثير من إنجازات الشعب السوري وابداعاته، التي تشكلت على مدى أجيال وعقود من الزمن وجاء في أحد التقارير، التي صدرت مؤخراً، بأن عدد المنشآت الصناعية التي جرى تدميرها خلال الأزمة قد بلغ حوالي خمسين ألف منشأة، تُقدر تكلفة إعادة إعمارها بأكثر من خمسة مليارات دولار، يضاف إليها أربعة مليارات دولار أخرى، هي تكلفة إعادة خدمات المرافق والبنية التحتية، مثل الكهرباء والمياه والاتصالات والطرقات. وتشير التقارير الدولية إلى أن منشآت التصنيع الدوائي كانت في مقدمة المنشآت الصناعية الحيوية التي طالها التدمير خلال سنوات الأزمة، وخاصة في عامها الأخير. وهو الأمر الذي عكس نفسه، على نحو خطير، على صحة الإنسان السوري. وفي العام 2013، قالت منظمة الصحة العالمية إن أكثر من 90% من مصانع الأدوية السورية تضررت بدرجة كبيرة، وإن هناك عدداً كبيراً من هذه المصانع أغلق نتيجة للأحداث الدامية، وارتفاع تكلفة الوقود، مما أسفر عن نقص حاد في الدواء. وحذرت المنظمة من آثار مدمرة لهذا الوضع على صحة الناس، الذين يحتاجون للأدوية بشكل يومي، مثل أصحاب الحالات المزمنة، وكذلك من يتعاطون مضادات حيوية لمنع انتقال العدوى. وقبل الأزمة، كان يوجد في سوريا 67 مصنعاً لصناعة الأدوية، تنتج أكثر من 1400 مستحضر، من الزمر الدوائية المختلفة، وتغطي ما نسبته 92% من احتياجات البلاد من الدواء. وحتى يومنا هذا، لا توجد أية دولة في الشرق الأوسط تتمتع بهذه النسبة من الاكتفاء الذاتي على صعيد الدواء والمستحضرات الصيدلانية. وهناك دول محدودة فقط في العالم قد بلغت هذه النسبة. ولم يكن السوريون وحدهم المستفيد من وضع الصناعات الدوائية هذا، بل جوارهم أيضاً، حيث كان بمقدور اللبناني أو الأردني أو العراقي إرسال وصفته الصيدلانية مع سائق تكسي، والحصول على أدويته بأقل من ربع سعرها المعتمد في بلده. وكانت معامل الأدوية السورية متركزة بشكل أساسي في حلب (25 معملاً) وريف دمشق (22 معملاً)، وكانت الأدوية تباع بأسعار منخفضة، أو بالأصح منخفضة جداً. وبدأت الصناعات الدوائية في سوريا تشهد، منذ مطلع تسعينيات القرن العشرين، قفزات سريعة ومتتالية. وفي نهاية العام 2002، كان عدد المعامل الدوائية المنتجة يبلغ 44 معملاً، بينها معملان للقطاع العام، هما تاميكو والديماس. ومنذ بدء الأزمة، واجهت شركات الأدوية السورية مشكلات في التوزيع، بسبب أزمة النقل بين المحافظات، وارتفاع أسعار المحروقات، وصعوبة استيراد المواد الأولية جراء العقوبات الغربية المفروضة على البلاد. وكان المصرف المركزي السوري يقوم بتمويل واردات المواد الاولية الداخلة في الصناعة الدوائية، بأسعار تشجيعية. وعندما تضطر هذه المعامل الى استيراد موادها الاولية بناء على اسعار صرف السوق السوداء، فإنها سرعان ما تواجه الإفلاس والتوقف عن العمل. ويبقى الأخطر في كل ذلك هو ما تذكره التقارير الميدانية المتواترة عن تورط مجموعات إرهابية ضالة في تدمير العديد من مصانع الأدوية السورية. وقد جاهرت بعض هذه المجموعات وتفاخر بهذا النهج التدميري الهدام، المعادي للشعب السوري وحضارته، والمنافي لكافة القيم الدينية والأخلاقية. وغير بعيد عن ذلك، قال بيان لمنظمة الصحة العالمية، صدر في السادس من كانون الأول ديسمبر 2013، أن ما يزيد على 60% من المستشفيات الوطنية العامة أُصيبت بالضرر أو توقفت تماماً عن العمل، في حين سُرقت نسبة مماثلة من سيارات الإسعاف من قبل العصابات الإرهابية الضالة. وقالت المنظمة إنه يُمكن اعتبار الهجمات التي تتعرض لها المرافق الصحية جريمة حرب طبقاً للقانون الدولي. وتؤكد المنظمة بأنه يتعيّن على كافة الأطراف احترام التزاماتها طبقاً للقانون الإنساني الدولي، الذي يقضي بحماية المدنيين والمرافق الصحية والمهنيين الصحيين خلال النزاعات، وكذلك ضرورة السماح لإمدادات المعونة الإنسانية الحيوية، مثل الأدوية واللقاحات والمعدات الطبية، بالوصول إلى المجتمعات المحلية الأشد احتياجاً لها. على صعيد آخر، عكست الأزمة نفسها على قطاع الزراعة والإنتاج الغذائي السوري، وتحولت سوريا من مُصدّر أساسي للمواد الغذائية على مستوى الشرق الأوسط إلى بلد يعاني نقصاً في حاجاته الغذائية. وتفيد تقارير المنظمات الدولية، بأنه جرى تخريب العديد من الحقول وقنوات الري، ودمرت الكثير من الجسور الحيوية، وطرق الإمداد الداخلية. واندمج كل ذلك مع مفاعيل العقوبات الغربية التي أصابت الفلاحين السوريين في مقتل. وكذلك مع ارتفاع أسعار الوقود الناجمة عن تدهور القطاع النفطي، الذي تعرض لتخريب واسع النطاق، وجرت السيطرة على عدد من حقوله من قبل الجماعات المتطرفة، في المحافظات السورية الشرقية. وعلى الرغم من أن الغذاء غير مشمول بالعقوبات على نحو مباشر، إلا أن تراجع احيتاطيات البلاد النقدية جراء تضرر القطاعات الإنتاجية المختلفة، ووقف التعاملات المالية الخارجية مع بنوك القطاع العام بفعل العقوبات، جعل من استيراد السلع الغذائية مسألة معقدة، وأحياناً غير مضمونة. وفي السادس من أيار مايو 2014، نقلت وكالة رويترز عن مصادر تجارية في المنطقة قولها إن سوريا تواجه صعوبات في شراء السلع الغذائية بالكميات الكافية التي تحتاجها، وذلك رغم المناقصات المتكررة التي تطرحها لشراء مئات آلاف الأطنان من السكر والأرز والقمح. وقالت رويترز، في تقرير خاص، إن هناك التحديات تتمثل في حاجة الموردين إلى تراخيص من سلطات الدول الغربية حتى بالنسبة للسلع الإنسانية، وهو الأمر الذي يخلق معوقات بيروقراطية إضافية. وهناك صعوبات إضافية بالنسبة للشحنات الكبيرة التي تحتاج مزيداً من الإجراءات المعقدة للتمويل، وما يرتبط بذلك من مخاطر، وهو ما يدفع أحجام الصفقات إلى التقلص، على نحو لا يفي بحاجات السوريين الغذائية. وقبل الأزمة، كانت شحنة القمح المعتادة تصل إلى 60 ألف طن، إلا أن الشحنات المعتمدة في الطلبيات الأخيرة، من الذرة والقمح والسكر الأبيض والشعير، لا تتجاوز 25 ألف طن. ويتوقع مجلس الحبوب العالمي أن تحتاج سوريا لاستيراد شحنات قياسية من القمح بحجم اجمالي قدره 1.9 مليون طن في موسم العام 2014-2015، على اساس محصول محلي قدره 2.5 مليون طن. من ناحيتها، أشارت تقديرات منظمة السكر الدولية إلى أن استهلاك سوريا سوف يبلغ 800 ألف طن في العام 2013 -2014، من دون تغير عن 2012-2013. وقالت مصادر تجارية إن سورية تحتاج لاستيراد كل هذه الكمية تقريباً، جراء تضرر الانتاج المحلي بسبب الأزمة. وخفضت شركات الشحن البحري أنشطتها مع سوريا. وقالت شركة ميرسك لاين العالمية لنقل الحاويات إنها تُسيّر حالياً رحلة واحدة أسبوعياً إلى ميناء طرطوس، عبر طرف ثالث، بعد أن أوقفت الرحلات إليه في العام 2012. واندمجت الأزمة الأمنية القائمة مع أزمة الجفاف المناخي، لتفرض مزيداً من التحديات على معيشة الإنسان السوري. وفي منتصف أيار مايو 2014، حذر تقرير لمنظمة الأممالمتحدة للأغذية والزراعة (الفاو) من أن ظروف الجفاف، مقرونة باستمرار الصراع، سوف تُفاقم من الضغوط الواقعة على وضع الأمن الغذائي في سورية، وتزيد من احتمالات الانخفاض الحاد في إنتاج القمح والشعير بالمناطق الزراعية الرئيسية. ويشكل القمح والشعير أهم المحاصيل الغذائية في سورية. وإذ يبلغ إجمالي تراجع المساحة المزروعة بالقمح، نحو 15% تقدر الفاو الإنتاج المتوقع لهذا المحصول عام 2014 ب1.97 مليون طن، أي دون المتوسط السنوي لفترة السنوات العشر السابقة 2001 -2010، بنحو 52%. وقد أصدرت الفاو أحدث توقعاتها بالنسبة للأمن الغذائي في سورية، من خلال نظامها العالمي للمعلومات والإنذار المبكر(GIEWS)، بينما يتأهب المزارعون لحصاد حبوب الشتاء خلال الأسابيع القليلة القادمة. ويستند الموجز القُطري الصادر عن هذا النظام المعلوماتي إلى بيانات صور التوابع الفضائية، والتقارير الميدانية، والمعلومات التي قدمتها الحكومة السورية. وفي محاولة للحد من آثار الأزمتين المناخية والأمنية على الإنسان السوري، وزعت منظمة الفاو بذور القمح والشعير في صفوف ما يقرب من 29000 أسرة مزارعة، في محافظات إدلب وحلب والحسكة وحماه، وذلك من أجل دعم العمليات الأولية لموسم زراعة المحاصيل الشتوية للفترة 2013 / 2014. وما يُمكن قوله خلاصة هو أن الأزمة التي تمر بها سوريا قد عكست نفسها على نحو حاد وخطير على الاقتصاد الوطني، ودمرت الكثير من إنجازات الشعب السوري وابداعاته، التي تشكلت على مدى أجيال وعقود من الزمن.