عندما وضع زبينغو بريجنسكي مستشار الأمن القومي ذائع الصيت في عهد الرئيس الأميركي الأسبق كارتر سياسة تطويق الاتحاد السوفياتي، الذي انهار بعدها بسنوات، كان ذلك الانهيار نتيجة متراكمة لفشل سياسات السوفيات السياسية والاقتصادية، ولم تكن تلك نتيجة التطويق العسكري الذي وضعه بريجنسكي، بقدر ما كانت الضربة القاضية التي وّجهها غورباتشوف للاتحاد عبر سياسة "البيريسترويكا" و"الغلاسنوست". تحدث الرئيس الأميركي باراك أوباما من وارسو العاصمة البولندية التي شهدت ولادة حلف وارسو "الشرقي" الشهير، الذي أنشئ ليكون في مواجهة حلف الناتو، وفي ذلك رمزية سياسية كبيرة.. عن خطة بقيمة مليار دولار لنشر قوات أميركية جوية وبرية وبحرية في أوروبا الشرقية، هذه القوات يفترض أن تساهم في بناء قدرات الدول غير الأعضاء في حلف شمال الأطلسي بما فيها أوكرانيا وجورجيا ومولدافيا بحيث تعمل مع الولاياتالمتحدة والحلفاء الغربيين لبناء دفاعاتها. خطة أوباما هي رسالة مباشرة في وجه الكرملين بأننا مستمرون في تطويق روسيا. ولعل أحداث القرم هي نتيجة طبيعية لخشية موسكو من سقوط السد الأخير أمام الناتو ونعني هنا أوكرانيا. في الجهة المقابلة أعلنت إدارة أوباما قبل سنتين إستراتيجية "إعادة التوازن" أو "المحور الآسيوي"، والهدف المعلن هو استفادة الولاياتالمتحدة السياسية والاقتصادية من منطقة آسيا - الباسفيك، التي شهدت نمواً كبيراً خلال القرن الحالي، وتُفسر هذه السياسة في بكين بأنها خطة لتطويق الصين، إذ سيترتب عليها نقل (70%) من الأسطول الأميركي إلى مياه الباسفيك، وهو ما يعني تعزيز القوة العسكرية للولايات المتحدة في المحيط الصيني، تلك السياسات قد تنتج مشاكل أمنية على حد قول الدكتور كينيث ليبرثل الخبير في الشؤون الصينية. ماذا لو حدث وأن سيطرت الصين على الجزر المتنازع عليها مع اليابان كما فعلت روسيا بالقرم؟. الواقع أن سياسة القوة الواحدة التي لا تقهر لا تبدو عملية جداً مع صعود مجموعة من الدول في آسيا خصوصاً مثل الهندوالصين وكوريا الجنوبية، وكلها دول تعد الأكثر صرفاً على التسلح. اليوم نحن أمام عالم متجدد ومتعدد القوى، لا يمكن الاستهانة به وبالقوى الصاعدة، يمكن أن تفرض الولاياتالمتحدة عقوبات على روسيا، لكن هل واشنطن قادرة على التعامل مع الصين حال حدوث أي توتر عسكري، قد ينشأ في منطقة الباسفيك بنفس الطريقة التي تعاملت فيها مع موسكو بفرض عقوبات على اقتصادها، بالطبع لا، فالصين ببساطة هي ثاني أكبر اقتصاد في العالم، واحتياطها من الدولار الأميركي هو الأكبر في العالم ويقدر ب(3.95) تريليونات. تبدو تلك السياسات مجدية في وقت ما قبل الانهيارات "جدار برلين" و"الاتحاد السوفياتي"، لكن اليوم ينبغي للولايات المتحدة إدارة تواجدها في العالم بشكل أكثر انسجاماً وتواؤماً مع المتغيرات التي يمر بها الكون، والتي لا يمكن لواشنطن الإحاطة بها جميعاً، فالقدرات الأميركية لن تصمد في وجه كل المشاكل، وإن بدت تدرك ذلك بإدارة ظهرها للشرق الأوسط الميؤوس منه.