قبل أيام وصل الرئيس الروسي بوتين إلى إقليم القرم في أول زيارة يقوم بها منذ ضم الإقليم إلى روسيا، واصفا ما حدث بأنه عيد الانتصار للوطن وان السوفيات هم من أنقذوا أوروبا من العبودية. الزيارة اثارت كثيرا من الانتقادات ووصفتها أوكرانيا بالاستفزازية، واعتبرتها واشنطن مؤشرا لزيادة التوتر في شرق أوكرانيا. هذا المناخ يشير بلا مواربة الى صراع على النفوذ بدأنا نشهده ما يعكس عودة الحرب الباردة بين القطبين لاسيما بعد إصرار موسكو على تفكيك أوكرانيا للهيمنة على شرقها من ناحية، وإقرار عقوبات اقتصادية أميركية اوروبية على روسيا من ناحية أخرى. إننا نتساءل: هل أصبحت ازمة القرم قمة رأس الجليد والتي اعادت للأذهان أجواء الحرب الباردة؟ وإذا كانت القرم خطا احمر لموسكو وتهديدا لأمنها القومي، فما انعكاس ذلك على سياستها في سورية وتقاطع ذلك مع سياسة واشنطن وحليفاتها؟ ولعل المثير حول ما يتردد بأن بوتين يؤمن بالرؤية التي تقول: «إن الشعوب في المنطقة الممتدة من بولندا إلى آسيا الوسطى لطالما كانت مرتبطة ثقافيا بالروس على امتداد التاريخ وينبغي إعادة هذا الارتباط». ما يعني اثارة الشكوك والقلق لجيرانه من السلوك الروسي الجديد وكأنه يريد إعادة الإمبراطورية القيصرية. ولكن لماذا هذا الاهتمام الروسي بالقرم؟ يبدو ان الامر له علاقة بتوسيع تمركزها البحري في المنطقة خاصة ان الشرق الاوكراني تاريخيا له ارتباط بروسيا بدليل الجالية الروسية الكبيرة (العرق الروسي يمثل الاغلبية في القرم بنسية 58%) بخلاف الغرب الاوكراني الذي يميل للغرب، غير ان النقطة الأهم تتعلق في موقع أوكرانيا الذي يعتبر الجسر الذي يصل روسيا بأوروبا وبالتالي من الصعوبة بمكان ان تفرط موسكو فيه. كما ان في القرم قاعدة بحرية روسية سبق ان طالبت الحكومة الأوكرانية بإخلائها ما يعزز مخاوف الروس حول بقاء اسطولها البحري. إذن المسألة كما يبدو تتعلق بأمنها القومي الذي تمثل القرم فيه نقطة تماس مع حلف الناتو وبسبب موقعها الجغرافي واصولها الديموغرافية، وهنا تكمن أهمية القرم بلا أدنى شك. ولكن ما الذي شجع الروس على اتخاذ خطوة جريئة كهذه دون أدنى خشية من عواقبها وتزامن ذلك مع تراخ أميركي واوروبي؟ لا شك ان التقاعس او التراجع الأميركي ان شئت على الخارطة الدولية كان سببا رئيسيا شجع روسيا على المضي في تنفيذ مخططها. وهناك من يرى ان المناخ العالمي الراهن سيدفعها لالتهام كل أوكرانيا. ومع ذلك فالأرجح ان واشنطن اضطرت الى إقرار العقوبات لأنها في حقيقة الامر تعلم ان القطيعة مع موسكو سيكلفها كثيرا فضلا عن خشيتها من تحالف روسي - صيني تسعى لكسره بدليل استراتيجيتها الدفاعية التي قلصت النفقات العسكرية، ولذا فواشنطن لا تميل الى التصعيد وتطالب بحل توافقي ومرض للطرفين، في حين ان روسيا تحبذ ان تتحول أوكرانيا الى النظام الفيدرالي من اجل تحقيق توازن في علاقاتها بأوروبا والتي هي في حاجة للغاز الروسي وتتحاشى الدخول في ازمة طاقة. ومع ذلك فإننا نتساءل: هل أصبحت ازمة القرم قمة رأس الجليد والتي اعادت للأذهان أجواء الحرب الباردة؟ وإذا كانت القرم خطا احمر لموسكو وتهديدا لأمنها القومي، فما انعكاس ذلك على سياستها في سورية وتقاطع ذلك مع سياسة واشنطن وحليفاتها؟ وهل خضعت الورقتان الأوكرانية والسورية لسياسة التوافقات ما بين البيت الأبيض والكرملين؟ وهل هناك خشية من ان تتحول القرم مستقبلا الى قاعدة جهادية بوجود خلايا انتحارية يأتون من القوقاز والشيشان مع مسلمي القرم كما تقول بعض وسائل الاعلام للانتقام من النظام الروسي؟ على أي حال، تساؤلات الزمن كفيل بالإجابة عنها. وفي هذا السياق، يجمع محللون على أن العقوبات الأميركية والأوروبية لن يكون لها أي أثر حقيقي على موسكو، لأن ضم القرم سيزيد من مكاسبها الاقتصادية. ولذلك يتضح ان تجاهل البيت الأبيض لما يحدث في العالم من مآس وكوارث كما يحدث في سورية وغيرها مرده سياسة أوباما المهادنة فضلا عن فشل الاستراتيجية الأميركية منذ التسعينيات وحتى الان حينما فرضت نفسها كشرطي للعالم وقطب اوحد حيث أصابها الاعياء الشديد وإخفاقات متكررة في ملفات ملتهبة ما سبب لها أزمات عديدة لعل أهمها الازمة المالية، وهذا ما يفسر توجه الرئيس أوباما نحو الداخل مركزا جل سياسته على الازمة الاقتصادية في بلاده متجنبا أي تورط عسكري في الخارج خلال فترة حكمه، ناهيك عن اهتمامه بالانتقال إلى آسيا والمحيط الهادئ، لأنه يرى ضرورة مواجهة الصين. وبالتالي فالمحصلة لكل ذلك تقول بأن هناك تراجعا أميركيا مقابل تقدم روسي واضح. غير أن التساؤل الذي ظل يطفو على السطح منذ التسعينيات يدور حول النظام الدولي واتجاهاته، ويتمثل في شكله وطبيعته. فهل ما زالت الزعامة وحيدة أم أنها ثنائية أم متعددة؟ هذا الحديث تصاعد بوتيرة متسارعة متزامنا مع تراجع مكانة الولاياتالمتحدة ودخول منافسين جدد إلى الساحة. الحقيقة أن بوصلة النظام الدولي تتجه لعالم متعدد الأقطاب، وذلك بوجود مؤشرات وظواهر سياسية واقتصادية تؤكد عودة روسيا القوية وصعود قوى أخرى كمجموعة البريكس. وقد نتناول هذه الجزئية في مقال قادم. صفوة القول حضور الدب الروسي ليس طاغيا كما نتصور بقدر ما يعكس تراجعا للقطبية الأميركية ولذلك كسر احتكارية القطبية ضرورة للتخلص من القيادة المركزية للعالم وهذا يصب في صالح النظام الدولي كونه يتيح لكل دولة حرية الاختيار والقرار والحركة دون الخضوع لهيمنة أحد.