قبل 12 عاماً، وحينما كانت عقارب الساعة، تتجه إلى الساعة السادسة و45 دقيقة من مساء ذلك اليوم، الثامن من يونيو 1992، أطلقت رصاصات الجهل والتخلف واستقرت في كبد وأمعاء المفكر المصري المثير للجدل فرج فودة، لتُنهي بذلك حياة متمردة لذلك الباحث الذي قرر التفكير خارج الصندوق، في مجتمع لا يؤمن بتجديد وعصرنة الفكر والفهم والبحث والمراجعة، خاصة حينما تطال القيم والعادات والموروثات. هذه الحكاية المؤلمة، ليست مجرد محاكمة/ تصفية جائرة ومباشرة لفرج فودة، ولكنها رسالة قوية وواضحة لكل من يُمارس التفكير والفهم والاستدلال والاستنباط بشكل مختلف، لا يتماشى مع النسق السائد الذي يُراد له أن يستمر ويُسيطر للأبد. ولكن من هو فرج فودة؟ ولد فرج فودة في قرية الزرقا بمحافظة دمياط بأقصى شمال مصر، في 20 أغسطس 1945. وقد ارتبطت هذه المحافظة بتاريخ طويل في مواجهة إرهاب الجماعات المتطرفة في مصر. حاصل على ماجستير في العلوم الزراعية، ودكتوراه فلسفة في الاقتصاد الزراعي من جامعة عين شمس. وقد تأثر فودة منذ بداياته بالعديد من رواد التنوير المصري كرفاعة الطهطاوي وعلي مبارك وقاسم أمين وطه حسين وأحمد بهاء الدين ومحمود السعدني وأحمد عبدالمعطي حجازي وغيرهم، ممن اعتبرهم فودة بمثابة المناضلين الذين استطاعوا إحداث الكثير من الاهتزازات والتغيرات والتحولات في بنية الفكر المجتمعي ما شكل ظاهرة التنوير في المجتمع المصري. وتعتمد ظاهرة التنوير كما يراها فودة في الأساس على معالجة قضية العلاقة بين الإسلام والحداثة، حيث يؤمن فرج فودة بأن "الدين جزء من مكونات الشخصية المجتمعية، بل هو ضميرها، ونغمة القرار في معزوفتها التي يمتزج فيها الهدوء بالعمق. وهذه النغمة، المتنوعة بطبعها، تختلف بشدة عن نغمات الجاز الصاخبة التي يفاجئنا بها المتسرعون والمتشنجون، والمكونون لتيار عارم، يُغذيه فكر أحادي الاتجاه. ومن ثم فإن أولى خطوات التنوير هي أن يدرك أنصار التيار الأخير أنهم ليسوا وحدهم جماعة المسلمين، وأن معركة التنوير تقوم بين فريقين من المسلمين يبغى أحدهما تطبيق الشريعة على ما تركه السلف دون اجتهاد ومراجعة، بينما يُريد الفريق الآخر إقامة قواعد تنظم المجتمع على أسس لا تتناقض مع جوهر الدين في شيء، ولا تصطدم مع معطيات العصر في إطارها العام". أما مشروع فرج فودة التنويري، فإنه يقوم على أربعة محاور رئيسية هي: نقد الإسلام السياسي المعاصر، ونقد الإسلام السياسي التاريخي، وحتمية الاجتهاد وإعمال العقل، والدفاع عن أسس الدولة المدنية الحديثة. وقد صدر لفرج فودة العديد من الكتب التي كانت مثاراً للجدل والسخط، بل وكانت سبباً رئيسياً في اتهامه بالزندقة والكفر والردة. ومن تلك الكتب: الحقيقة الغائبة، زواج المتعة، الإرهاب، الطائفية إلى أين؟، حوار حول العلمانية، وقبل السقوط. بالنسبة لي، قرأت الكثير من فكر وطروحات فرج فودة، ولا أخفي دهشتي، بل صدمتي أمام الكثير منها. لم أتقبل الكثير مما ذهب إليه، خاصة في فهمه المختلف جداً للكثير من الآيات والاحاديث، وكذلك نظرته الخاصة جداً للعلمانية كقيمة ووظيفة وممارسة. يبدو أن ظاهرة المد والجزر التي طالما حكمت العلاقة الملتبسة بين المثقف المتمرد والسلطة بمختلف أشكالها ومستوياتها، لاسيما الدينية التي تظن بأنها الموكلة بفهم وتطبيق وتنفيذ الشريعة الإسلامية، تتكرر مشاهدها وفصولها وأحداثها بين الفترة والأخرى، ولم تستطع كل تلك القرون الأربعة عشر أن تؤسس لحالة صحية وطبيعية من الاختلاف والتباين والتمايز، سواء في الرأي أو الفكر أو الفهم. وكلما نمت بعض المبادرات والخطوات باتجاه تمكين بعض الثقافات والسلوكيات التي تدفع بمجتمعاتنا نحو المزيد من الممارسات الإيجابية كالحوار والتسامح والاختلاف والانفتاح والقبول بالرأي الآخر، تصطدم بصخرة الواقع المرير التي شكلتها تلك العقول الصدئة التي تسكن الماضي وتخاف من المستقبل. هذا الجزء البسيط من نص التحقيقات التي أجريت مع عبدالشافي أحمد رمضان، الشاب الذي قتل فرج فودة، علّها تُلخص أزمة العقل العربي منذ قرون وحتى الآن: س: لماذا قتلت فرج فودة؟ القاتل: لأنه كافر. س: وكيف عرفت انه كافر، هل قرأت كتبه أو مقالاته؟ القاتل: لا، لم أقرأ. س: كيف؟ القاتل: لأنني لا أعرف أقرأ أو أكتب.