ابني الأصغر ياسر(في الأول ابتدائي) ينام مبكراً قبل الجميع، وفي كل ليلة أحرص على الاستلقاء قربه حتى أكون آخر من يراه قبل النوم، وغالباً لا يستغرق الأمر أكثر من ربع ساعة ليدخل في نوم عميق في حين أبقى قربه متسائلاً: لماذا أحب هذا المخلوق الصغير؟ بالتأكيد لا أحبه طمعاً في مصلحة أو منفعة أو رد جميل. لن تعثر مثلي على إجابة شافية وبالتالي يبدو حبك بلا هدف (والأغرب من هذا أننا سنظل نحبهم حتى إن عصونا أو هجرونا أو رفضوا رد الجميل إلينا)! إذاً؛ هل يكمن الخطأ في السؤال ذاته؟ بمعنى: هل نحبهم لأنهم أبناؤنا؟ أم لأنهم يحتاجون لرعايتنا فنتعلق بهم بمرور الوقت!؟ معظم الناس يتبنون المقطع الأول ويعتقدون أننا نحبهم لأنهم أبناؤنا (وهذا خطأ لا يقود لأي جواب)!! الصحيح هو أننا نحبهم لأنهم عاجزون وضعفاء ويحتاجون لرعاية أشخاص أكبر منهم سناً. ليس صحيحاً أننا نحبهم لأنهم قطعة منا أو يشكلون امتداداً وراثياً لأجسادنا، بل لأن "الحب" آلية نفسية تطورت لدينا بهدف حماية المخلوقات الضعيفة والعاجزة عن رعاية نفسها (وفي هذا ضمان لاستمرار البشر وحمايتهم من الانقراض)!! وآلية الحب هذه تتبلور وتنمو بداخلنا حين نعيش قرب الأطفال (أي أطفال) لفترة طويلة في ذات المكان. تنمو داخلنا حين نربي في بيوتنا أيتاماً لا يحملون صفاتنا الوراثية ولا ينحدرون من جيناتنا الشخصية. يدرك مشاعر الأبوة والأمومة كل من يعيش بينهم ويلتصق بهم لفترة طويلة مثل الخادمة المخلصة أو المعلم الفاضل أو المربية الحنون. وفي المقابل تغيب مشاعر الأبوة عن الشباب العزاب، والآباء الجدد، والأمهات اللواتي تركن أطفالهن فور ولادتهم بسبب طلاق أو زواج جديد. العلاقة بين الحب والحاجة تتضح من قول الإعرابية التي سئلت عن أحبِّ أبنائها إليها فقالت: "الصغير حتى يكبر، والمريض حتى يشفى، والمسافر حتى يعود".. فالأولوية للصغير لأنه الأكثر ضعفاً وحاجة، وللمريض لأنه الأحق بالرعاية والخدمة، والمسافر لأنه الأكثر عرضة للاحتمالات الخطيرة. وهكذا يتضح أن حبنا لأبنائنا هو (في أصله العميق) مجرد آلية نفسية طورها الجنس البشري لحفظ ذريته في المقام الأول.. شعور يتدرج بحسب حاجتهم إلينا ومدى قربنا منهم وفترة عيشنا معهم (ولهذا السبب أكاد أقسم أن مشاعر الأبوة لدى رجل يعيش مع زوجة وطفلين، أقوى بكثير من رجل يتنقل بين أربع زوجات ويملك جيشاً من الأطفال)!! أما بعد محبة الأبناء فتأتي مشاعر العطف والشفقة على عامة الناس، وهي بدورها مشاعر ساعدت البشر على البقاء والنجاة خلال تاريخهم الطويل.. وبتطور المجتمعات تمت صياغتها كقوانين وأنظمة وأخلاقيات تهدف إلى استمرارية وبقاء النوع البشري ككل، بدليل أننا نتجاهل كل القوانين والأخلاق حين يتعلق الأمر بملايين الأبقار والدواجن التي تقاد يومياً إلى المجزرة!! أعرف أنه تفسير جاف - ويبدو خالياً من العواطف- ولكنه في حقيقته آلية تطورية مرنة تجعلني أزداد حباً لياسر كلما لمست شعره أو شممت أنفاسه قبل النوم.