يمكن القول إن حراكا بلا رأس فكري يدرك شروط وأبعاد التغيير وماهيته وأدواته إنما هو تغيير قد يكون كارثيا، وقد يكون وسيلة لهدر مزيد من القدرة المجتمعية، وقد يورث المجتمع حالات انقسام شديدة وربما حتى احتراب داخلي عبثي هادم كان المقال السابق سؤالا عن دور المثقف والكاتب والمفكر في إحداث التغيير. وكانت الحالة التي تم اسقاط سؤال القصيمي حولها هي الاحداث مرت ومازالت تعاني من تبعاتها العديد من الدول العربية خلال الأعوام الثلاثة الماضية. وإذا كانت الاجابة عن بعض تلك الاسئلة تؤيد ما ذهب إليه مفكر مثل عبدالله القصيمي الذي كان متشائما من دور المثقف والكاتب العربي في احداث التغيير عبر جهده الفكري ونشاطه الثقافي.. إلا أن المأزق الأخطر أن كل تغيير أو حراك إذا كان خلوا من بعد فكري أو لا تحمله كتلة معتبرة تجعل الافكار وسيلة لبلوغ الاهداف.. فلا يعني هذا سوى مزيد من التخبط والاستقطاب والانقسام الشديد الذي قد يؤدي بأي مكتسب مهما كان صغيرا. وإذا كان الشباب هم الكتلة الاكثر تأثيرا فيما عرفت المنطقة العربية من تطورات خلال الاعوام القليلة الماضية.. فإن الشاهد الاكبر على تضعضع قيمة التغيير واحتباسها وتراجعها او انهيارها.. عدم ظهور او بروز وجوه جديدة أو عناصر شبابية تملك القدرة على تحقيق اجماع ولو جزئي لقيادة وتوجيه مرحلة.. ولذا ظلت الاستعانة بالوجوه القديمة تطل في المراحل المختلفة.. وظلت صراعاتها القديمة والجديدة علامة فارقة في تعطيل مرحلة لا تكاد تبدأ حتى تعود للمربع الأول. في البدء كان البحث عن مخرج من أزمات خانقة وضاغطة دون التماس رؤية لها شروطها وحدودها وطاقتها وأفكارها.. تحرك الجزء الأضعف في معادلة التغيير أو ما بدا إنه الأضعف في حسابات الكثيرين.. بتلقائية وتحت وطأة سحر خاص، إلا أنه في الحقيقة كان الاقوى تأثيرا والأشد وطأة. بل ان ثمة شكوكا كثيرة تحيط بنجاح أولئك الذين خرجوا لو كانوا يحملون رؤية جدلية حول طبيعة وماهية الصراع.. التي برع في نسج أدبياتها مناضلون وكتاب ومثقفون. إلا أن خلو المشهد من قيادة تلك المرحلة عزز النتيجة التي وصلت إليها تطورات الحالة العربية. أليست الظروف والضرورات إذن هي التي تؤثر على سلوك الناس، وبما هو أبلغ تأثيرا من عبور المفاهيم الفلسفية أو التوجهات الفكرية. وبعد أن أتاحت تلك الظروف إحداث تغيير في مستوى ما، تم بأثر رجعي العودة إلى رؤى بعض المفكرين والكتاب والمثقفين لتبرير وتفسير ما حدث بأدوات الباحثين والدارسين لتلك الظاهرة. إلا أن كل هذا يجب ألا يعطينا الاطمئنان للذهاب بأن ما حدث ويحدث لم يكن للأفكار دور في تشكله. إلا أن ذلك الدور بطبيعته دور تراكمي ومن النادر أن يكون تأثيرا مباشرا سريع المفعول. المساحة التي اخذتها تلك التغيرات تُمكِّن الباحث اليوم من تلمس الاثر وليس فقط الفعل الآني المرحلي في تغيير عاصف ومفاجئ، ولكن غير مكتمل الحضور وغير واثق الخطى وربما تعثر في سلاسل الانقسام والاصطفاف والاحتراب الداخلي. إذا كان الفعل الأولي يمكن تبريره نتيجة لظروف اقتصادية واجتماعية ضاغطة، فقد كان مفعوله يتركز في هديره ورفضه، أما الخطورة التي اكتشفت لاحقا أن هذا الحراك كان بلا رأس تلتئم فيه قضايا اساسية تجتمع عليها الكتل الفاعلة في مشهد التغيير. ولقد رأينا كيف استثمرت القوى الاكثر تنظيما مشهد الاقتراع لتحقق تقدما واضحا وترتقي لمصاعد الحكم في مرحلة انتقالية.. أما ما تلاها من تطورات فلن يكون المسؤول عنها سوى حالة الصراع على السلطة، أدت إلى ما أدت إليه في هذا المشهد الملتبس. المراحل التي صبغت نظم التوقف، أدت أيضا الى نتيجة مهمة وهي خلو الساحة من امكانية ولادة قيادات فكرية وسياسية قادرة على استقطاب الشارع لفكرة التغيير السلمي القائم على تقديم البدائل في ظروف الازمات الخانقة. وهنا تصبح المسألة ليست مرتبطة فقط بكون المثقف او المفكر او الكاتب غير قادر على إحداث التغيير عبر ادواته المعرفية والثقافية ولكن ايضا نتيجة لتجفيف منابع ولادة تلك القامات. بيئة حرمت المجتمع من مصانع انتاج قيادات شابة تملك القدرة على قيادة مرحلة مختلفة. ولذلك عندما انكشفت غمة النظام القديم كان المشهد خلوا سوى من بضع شخصيات اعادت انتاج خطابها ليتوافق مع مرحلة، ولم تكن بحال تملك القدرة أو الثقة لتسيير مرحلة دون الاستعانة بما تبقى من مؤسسات النظام التي بقيت متماسكة. وإذ يظهر بين الحين والاخر على وسائل الاعلام بعض الشباب الذين يمثلون الجيل الجديد، إلا ان المراقب يدرك سرعة ظهور وذبول تلك الطاقات. لم يكن احد منهم يملك ان القدرة على تقديم افكار متماسكة او منظومة افكار تقف خلفها كتلة قادرة على الدفاع عنها. كانت مجرد شعارات تطلق.. وكانت اللغة اقرب للغة العوام لا لغة مؤسسة على فكرة ومشروع ورؤية. ولذا كان من السهولة استدراجهم والعبث بهم واستغلال قدرتهم على الحشد ولكن بعيدا عن تقرير مستقبل مرحلة أو دور يمكن ان يكون له تأثير في سياق مشهد بالغ التعقيد. من هنا يمكن القول ان التغييرات التي اجتاحت العديد من الدول العربية في معظمها كانت خلوا من تأثيرات مفكرين أو مثقفين كبار طالما كان التنظير على الورق مهنتهم الاولى لكن بدون قدرة على حراك يمكن ان يجعل لمثل تلك الافكار قدرة على الحياة. هنا يمكن الاتفاق مع القصيمي في فكرة ان الكاتب لا يغير المجتمع ولكن الظروف الموضوعية السائدة هي الدافع للتغير. لكن الخطر الاكبر عندما يتم الركون لجماهير تحركها احتياجاتها وعواطفها، لا قدرتها على قراءة واقعها او انتاج عناصر من داخلها قادرة على استلهام فكرة او مشروع يحقق لها اهدافها. ومن هنا أيضا يمكن القول ان حراكا بلا رأس فكري يدرك شروط وأبعاد التغيير وماهيته وأدواته، ومكتسباته وخسائره، إنما هو تغيير قد يكون كارثيا، وقد يكون وسيلة لهدر مزيد من القدرة المجتمعية، وقد يورث المجتمع حالات انقسام شديدة وربما حتى احتراب داخلي عبثي هادم. ينبثق الوعي من محاضن الافكار، ولولاها لم يكن هناك دعوة لحرية أو كفاية أو كرامة أو حقوق.. إلا إنها ليست بالضرورة قادرة على صناعة التغيير. ومن الحق أن يقال ان كل ما حدث هو نتاج لظروف موضوعية وتطورات اجتماعية واقتصادية ضاغطة وتطور اتصالي عالمي جعل من الامثولة في التغيير حاضرة ومجربة.. إلا أنها لا تخلو أبدا من حضور وعي لا يمكن أن ينبثق بين عشية وضحاها. وعليه، يمكن القول ان الكاتب لا يغير المجتمع.. إلا إذا أصبح هذا المجتمع متهيئا للتغيير عندها سيجد ضالته في دعوة أو فكرة أو رؤية.