وأذكر من شتاء القرية النضاج فيه النور من خلل السحاب كأنه النغم تسرب من ثقوب المعزف - ارتعشت له الظلم وقد غنى - صباحاً قبل.. فيم أعد؟ طفلاً كنت ابتسم لليلي أو نهاري أثقلت أغصانه النشوى عيون الحور. وكنا - جدنا الهدار يضحك أو يغني في ظلال الجوسق القصب وفلاحيه ينتظرون: «غيثك يا إله» واخوتي في غابة اللعب يصيدون الأرانب والفراش، و(أحمد) الناطور- نحدق في ظلال الجوسق السمراء في النهر ونرفع للسحاب عيوننا: سيسيل بالمطر. وأرعدت السماء فرن قاع النهر وارتعشت ذرى السعف واشعلهن ومض البرق أزرق ثم أخضر ثم تنطفئ وفتحت السماء لغيثها المدرار بابا بعد باب عاد منه النهر يضحك وهو ممتلئ تكلله الفقائع عاد أخضر، عاد أسمر، غص بالأنغام واللهف وتحت النخل حيث تظل تمطر كل ما سعفه تراقصت الفقائع وهي تفجر - إنه الرطب تساقط في يد العذراء وهي تهز في لهفة بجذع النخلة الفرعاء ٭ ٭ ٭ وأبرقت السماء.. فلاح حيث تعرج النهر، وطاف معلقاً من دون أس يلثم الماء شناشيل ابنة الجلبي نور حوله الزهر (عقود ندى من اللبلاب تسطع منه بيضاء) وآسية الجميلة كحل الأحداق منها الوجد والسهر. ٭٭٭ يا مطرا يا حلبي عبر بنات الجلبي يا مطرا يا شاشا عبر بنات الباشا يا مطرا من ذهب ٭ ٭ ٭ تقطعت الدروب مقص هذا الهاطل المدرار قطعها ووراها، وطوقت المعابر من جذوع النخل في الأمطار كغرقى من سفينة سندباد، كقصة خضراء أرجاها وخلاها إلى الغد (أحمد) الناطور وهو يدير في الغرفة كؤوس الشاي، يلمس بندقيته ويسعل ثم يعبر طرفه الشرفه ويخترق الظلام وصاح «يا جدي» أخي الثرثار: أنمكث في ظلام الجوسق المبتل ننتظر؟ متى يتوقف المطر؟ ٭ ٭ ٭ وأرعدت السماء فطار منها ثمة انفجرا شناشيل ابنة الجلبي.. ثم تلوح في الأفق ذرى قوس السحاب. وحيث كان يسارق النظرا شناشيل الجميلة لا تصيب العين إلا حمرة الشفق. ثلاثون انقضت، وكبرت: كم حب وكم وجد توهج في فؤادي! غير أني كلما صفقت يدا الرعد مددت الطرف أرقب: ربما ائتلق الشناشيل فأبصرت ابنة الجلبي مقبلة إلى وعدي! ولم أرها. هواء كل أشواقي أباطيل ونبت دونما ثمر ولا ورد! بدر شاكر السياب ولد الشاعر بدر شاكر السياب عام 1926 في قرية جيكور على الفرات، قرب مدينة البصرة جنوب العراق. تنقل بين جيكور وأبي الخصيب والبصرة ثم بغداد لاستكمال تعليمه وتحصيله الدراسي ليتخرج من دار المعلمين في بغداد في منتصف الأربعينات، حيث كانت بغداد تعيش كباقي العواصم العربية انعكاسات الصراعات العالمية أثناء الحرب الثانية. دخل السياب معترك الحياة السياسية وعانى منها الكثير فقد دخل السجن مرات وطرد من الوظيفة ونفي خارج البلاد. صدرت مجموعته الأولى «أزهار ذابلة» عام 1947 في القاهرة وكان كتب في منفاه أجمل قصائده ومناجاته الشعرية غريب على الخليج وصهرت هذه المرحلة شعره ليتبلور فيها صوته وتكتمل أداته ويكتب ذروة نصه الشعري الذي صار يتميز به بعد رحيله. زار بيروت عام 1960 لطبع ديوان له، وقد ساهم في هذه الفترة في الحركة الشعرية والثقافية المتمثلة بصدور مجلة شعر وحوار والآداب. وفي هذه الفترة بالذات تدهورت صحته وصار يتنقل بين بيروت وباريس ولندن وراء العلاج وكان جسمه يهزل أكثر وأكثر حتى انكسر عظم ساقه لهشاشتها. شكلت هذه السنوات الأخيرة بين 1960 - 1964 مأساة السياب الصحية والاجتماعية حيث عانى من الموت يحمله بين ضلوعه في المنافي وليس لديه إلا صوته ومناجاته الشعرية ممزوجة بدم الرئة المصابة، حتى مات مسلولاً في يوم 24/12/1964 في المستشفى الأميري في الكويت. أسس السياب لحداثتنا شعراً وكتب قصائد لا ماضي لها في الشعر العربي المعاصر مختطاً بذلك مساراً في القصيدة العربية الحديثة سار عليه الكثيرون من بعده. يمتاز شعر السياب بالمناجاة الغنائية العميقة والصورة البارعة التي تمتزج فيها اللغة بالرؤية وبالايقاع في مدى شعري ممتد بين روعة الأداء وعمق الدلالة وتشابك ايماءاتها. صدرت له المجموعات الشعرية التالية «أزهار وأساطير» و«المعبد الغريق» و«منزل القنان» و«أنشودة المطر» و«شناشيل ابنة الجلبي».