من الظلم أن يتوقع أحد من الشاعرة العراقية لميعة عباس عمارة (زميلة بدر شاكر السياب ونازك الملائكة في دار المعلمين العالية في بغداد في أواخر الأربعينيات من القرن الماضي) أن تكتب الآن شعراً، أو أن يصدر لها ديوان، من وحي آخر نظريات الحداثة الشعرية سواء في العالم الخارجي أو حاضر الثقافة العربية. تجاوزت لميعة الثمانين من العمر الآن، وقد انصرفت ومنذ شبابيها، عن النظريات الشعرية لتكتب قصيدة تقليدية أو شبه تقليدية حتى ولو كانت هذه القصيدة على وزن التفعيلة، فهي شاعرة تتعامل مع الشعر تعاملاً عفوياً وبلا نظريات إن جاز التعبير. نأت بنفسها عن التنظير واستسلمت لبساطة الكلمة فيها، وكثيراً ما كتبت الشعر حسب الطريقة الخليلية المعروفة. وهذا ما يلمسه قارئ ديوانها الأخير «أنا بدويٌ دمي) الذي يضم أشتاتاً من شعرها عبر حياتها كلها، ولا يضمّ شيئاً تقريباً مما لديها الآن. هذا إذا كان لا يزال لديها ما تقوله للشعر. ويبدو أنه ليس لديها ما تقوله بدليل أن أحدث قصائد «أنا بدويٌ دمي» تعود إلى ما قبل عشرين عاماً من اليوم. ولكن لميعة عباس عمارة شاعرة وفية «للمكان» كما يظهر في قصائد ديوانها هذا، والواقع أن ديوانها هذا هو فعل وفاء للمكان، أي للمدن التي زارتها أو عاشت فيها. من يدقق في القصائد يجد أن للكويت حصة وافرة من الديوان. ثمة مقطوعة من بيتين تقول فيها لميعة: لي في الكويت أحباءٌ وما برحت وشائج الودّ تُدنيهم وتدنيني ما مرّ في سحرٍ ذكرٌ لواحدهم إلا وندّت في الأعماق «يا عيني»! ويلوح طيف بدر شاكر السياب في قصيدة لها عنوانها «رسالتان إلى الكويت». المعروف أنه ربطة لميعة ببدر علاقة عاطفية في شبابهما، وهي ترد في قصيدة له يروي فيها كيف سارا يوماً في أحد المراكب في النهر. وكان نزار قباني كلما التقى بلميعة قال لها: «يا لميعة لا تتعبي في كتابة الشعر وما عليك إلا أن تروي في كتاب حكايتك مع السياب وترسمي صورة لبغداد في الخمسينيات وهذا كاف»! ويبدو أن لميعة لم تقبل نصيحة نزار ودأبت على قول الشعر فلم يكن لها، برأي النقاد، منزلة ذات شأن في الحركة الشعرية العراقية كما كان لنازك الملائمة ولسواها. ولكنها وفيه في شعرها لأصدقائها وأحبائها. فها هي تقول في «رسالتان إلى الكويت» مقاطع لا يصعب تبني صورة السياب فيها: لو مرّ من شاطئك الحبيب فضمّخي خدّيه بالطيوب فهو يحبُ المسلك والندّ وريح العود، كل بخور الشرق من فراشه يضوع ضمّيه يا نسائم الخليج في الضلوع فهو غريبٌُ متعبٌ ضاقت به الدروب.. والمعروف أن للسياب قصيدة بعنوان «غريب على الخليج» فإذا ضممنا «المتعب» إلى «الغريب» عثرنا على صورة بدر الذي احتضنته الكويت في أيامه الأخيرة الحزينة. ويطلّ السياب في قصيدة أخرى للميعة عنوانها «تحياتي إلى البصرة»: خذي من نشوتي خمرة ومن عهد الصبا شطرة ومن حبي ومن مرحي ورشّي الليل بالخضرة ليّزهر ألفُ جيكور يناغي بالهوى بدرة! فهي هنا تسمّيه باسمه كما تذكر جيكورة التي زارتها يوماً بدعوة منه. على أن هناك أمكنة عربية كثيرة تطل من قصائد لميعة حتى لتبدو هذه القصائد نوعاً من قصائد مناسبات كتبتها الشاعرة بمناسبة زيازتها لها. هناك قصيدة عن تونس وأخرى عن قطر، وثالثة عن أبوظبي ورابعة عن المغرب. ولكن حبها «لأول منزل»، وهو العراق، واضح تمام الوضوح في ديوانها، يليه لبنان الذي أقامت فيه زمناً سواء قبل الحرب التي اندلعت فيه عام 1975م أو بعدها، أنعشتها جبال لبنان بخضرتها الساحرة وينابيع مياهها. تغربت لميعة في أكثر من مكان (تقيم الآن في كالفورنيا بالولايات المتحدة) بين بغداد ودمشق والقاهرة والرباط وطرابلس الغرب، لكن حنينها ظل دائماً لأول منزل. كانت بيروت دارها ولكن بغداد كانت حنينها. قصائد لمدن عربية وقصائد لملوك وأمراء حيثما تضطر في زياراتها مدعوة إلى هذه البلدان. وأكثر المدن التي ترد في شعرها بيروت التي كانت، كما يقول ياسين رفاعية في مقدمته للديوان، حبيبتها بالمطلق. لها دائماً هذا الحب الذي لا يفتر ولا يبرد: معصية أن يتقشف إنسان في بيروت يأوي كالعصفور في العصر لفراش ممطر بزفير البحر يتمرن كيف يموت! وتقول في قصيدة «ليل بيروت»: نقيٌّ الصمتُ هذا الليل ساكنة شوارعه وساكنة على حذر نواياه مخبّأة مُعَبّأة قذائفه مُهيّأة وبعض الموت منتظر ولغم سوق ينفجر وأشعر لستُ أخشاه لأني في سكون الليل سكانةٌ وإيّاه! وهي قصيدة مستوحاة من جحيم الحرب الأهلية اللبنانية التي عصفت بلبنان ودعت لميعة إلى مغادرته. وفي الديوان دموع رحيل وأشواق ووداعات وحياة تمور بالمودات والصداقات والشعر. وفي باب الأشواق تقول الشاعرة في قصيدة كتبتها من «سان دييغو» أبياتاً لا شك في انتمائها إلى الشعر الجميل الصادر من القلب: يُشوّقني لك المطرُ الخفيفُ ويُسقط كلَّ أوراقي الخريفُ مجنّحة خطاي، الريح دربي ووجهُك قبلتي أنّي أطوفُ! في «أنا بدويٌ دمي» تؤكد لميعة عباس عمارة انتماءها إلى أصالتها العربية، كما إلى الشعر الذي يجمع بين التقليدي والتفعيلي. ويمكن وصف هذا الديوان بأنه آخر زفرة لشعر الخمسينيات ولشعرائه أيضاً. فلميعة هي الوحيدة الباقية على قيد الحياة الآن من شعراء تلك الموجة التي نقلت الشعر العربي من حال إلى حال.