يتعارض هنا التفسير والشرح من حيث حاجته للاكتمال، لما يوجد به من مفارقات ونسب وأسباب ونواحٍ نظرية خاطئة وأخرى صحيحة. فالعنوان يفتح باب النقاش حول العلامة الدالة على التفكير الاجتماعي الصحيح. قال إيان كريب، مؤلف كتاب النظرية الاجتماعية: (كان ما يجمع رواد علم الاجتماع الأوائل هو الرغبة في معرفة المعاني الكامنة في التغيرات التي طرأت على مجتمعاتهم، وقد سعى هؤلاء إلى تجاوز التفكير المجرد، والمضي إلى ما هو أبعد من تفسير الأحداث في تلك الفترة، وقد سعوا إلى تطوير الوسائل الكيفية بدراسة العالم الاجتماعي)؛ فالإنسان بطبعه باحث عن غاية السعادة رغم جنون الاستهلاك العام، ورغم الإسراف والسعي أو المكوث في حالة دون أخرى إما حزينة أو يائسة، فإذا كان من الصعب تحديد تعريف لعصرنا الراهن وعلاقته بالحالة المادية وارتباطه الوثيق بالأخلاق الشكلية، والمظاهر الحقوقية التي تركن إلى جانب القلق المستمر. لماذا اختلفت السعادة في عصرنا عن الزمن القديم _ زمن أجدادنا _؟ ولماذا ارتبطت بالمال والبحبوحة الاقتصادية؟ هل هو الشقاء والخضوع للذات، أم هي الحاجات الحسية والجزئية التي يعجز الفرد أن يؤسس مفهوما مطلقاً لها، أو أن يحقق تكافؤاً بين الحياة والسعادة ومتطلبات العصر. لقد كانت السعادة عند أجدادنا ترتبط بالواجب أكثر من كونها بواعث تلقائية، رغم قلة الموارد فكان الشعور بالتوازن موجوداً، والأمل عاملاً مؤثراً في نفوس الناس، لم يدع الفرد آنذاك دوره يقتصر عليه كفرد، بل روح الجماعة لها أولوية قصوى في حياته، وقيم عظيمة يكتنزها في روحه وعقله، وهي قيمة الغيرية، والحضور في روح الجماعة والمجتمع المحيط به، مما أوجد الفضيلة والأثرة، فكانت أرواحهم تمتلك أقصى حدّ من الرفاهية المكتظة بالقيم التي تتبع صفاتهم الفردية. أما تمثلات السعادة اليوم فقد أسقطت عدة اعتبارات من مفهومها، واستولت على غاية الفعل الإنساني، والتزمت بالذات دون الغير في أحيان كثيرة. فالأشياء المحسوسة في عالمنا اليوم ارتبطت السعادة فيها بالمال والحال الاقتصادية وخاصة في الشرق الأوسط، بينما في الغرب الغني والفقير يطبق جميع الشروط المتعارف عليها، ويعمل وفق وتيرة الحياة العملية كما هي. وإليكم هاتين السيدتين مارثا هيلين ستيوارت، وأوبرا وينفري، من المشاهير والأثرياء في العالم، تملك استيورت 96% من أسهم بورصة نيويورك، وتعمل في تسويق المشاريع التلفزيونية، وبرنامج للطبخ تقدمه يومياً في التلفزيون مدة نصف ساعة تقريباً، وتعمل بكل جد، وكمثال آخر حي، أوبرا وينفري بلغت ثروتها عام 2003 مليار دولار مما وضعها في المرتبة 427 في اللائحة التي تضم 476 مليارديراً، واستمرت عقداً من الزمن تقدم برامجها الحوارية وتمارس حياتها كعاملة تتقاضى راتباً شهرياً إلى أن أطلقت قناة باسمها ثم أنهت عقدها. فالسؤال هنا هل حققت هاتان السيدتان السعادة كاملة، أم أن كل واحدة منهما انتهت إلى فرد بلا جماعة أو أسرة تتكون من أبناء وبنات، فأجدها سعادة مبتورة وغير متفاعلة، بوصفها سعادة إشباع مادي، وفي ماهيتها سلبية تستحوذ على الزمن والعاطفة، فلا يمكن تحقيق أي شعور بالرضا إلا بوجود الأنا الفاضلة التي تعنى بالمحيط الخارجي، فالمعنى أوجب من حب الذات والمال، وللفارابي أيضاً وجهة نظر حول (إشكالية مفهوم السعادة باعتباره غايات الفعل الإنساني يتجه نحو تجسيد قيم أخلاقية فردية وجماعية، قائلاً: إن كل الناس يتفقون في كون السعادة هي غاية كل أفعال الإنسان، والكمال الحقيقي الذي يروم إليه، ويجعل ما عداه وسيلة).