تسارعت وتيرة الأحداث في أوكرانيا، على نحو لم يتوقعه الكثيرون، فقد عزل البرلمان الرئيس فيكتور يانوكوفيتش، وقرر إجراء انتخابات رئاسية في 25 أيار مايو 2014. ويعتقد أن رئيسة الوزراء السابقة، يوليا تيموشينكو، ستكون إحدى الشخصيات الأوفر حظاً لتولي منصب رئاسة البلاد، الذي شغله على نحو مؤقت رئيس البرلمان، ألكسندر تورتشينوف. وفي إطار التحوّلات المتسارعة، صوّت البرلمان لصالح عزل وزير الخارجية ليونيد كوجرا وهو حليف للرئيس المعزول يانوكوفيتش. وقد خاض كوجرا عن قرب المناقشات مع القوى الأجنبية بشأن قرار يانوكوفيتش رفض الاتفاقات السياسية والتجارية مع الاتحاد الأوروبي. كذلك، أصدرت السلطات أمراً بالقبض على وزير الداخلية السابق، ألكسندر كليمنكو، والنائب العام السابق فيكتور بشونكا. موسكو تتهم الغرب بالتأثير على الخيار السياسي للشعب الأوكراني والتحريض على الاحتجاجات وقال المفوض البرلماني لمتابعة عمل الأجهزة الأمنية، فالنتين ناليفايشينكو، إن رئيس جهاز أمن الدولة ونوابَه تركوا عملهم وأغلقوا هواتفَهم، وأكد أن كلّ الجهاز القيادي لأمن الدولة ترك عمله بشكل فعلي. وأوضح أن الجهاز بقي دون اتصالات أو قيادة أو خطة لحماية المنشآت النووية في البلاد، وخاصة المحطات النوويةَ لتوليد الطاقة الكهربائية. وبدأت الأزمة السياسية في أوكرانيا في تشرين الثاني نوفمبر 2013، عندما تراجع الرئيس يانوكوفيتش عن إبرام اتفاق تجاري مع الاتحاد الأوروبي. وبعد احتجاجات دامت لثلاثة أشهر، وقع زعماء المعارضة الأوكرانية اتفاق سلام مع الرئيس فيكتور يانوكوفيتش، في 21 شباط فبراير 2014، نص على قيام انتخابات رئاسية مبكرة، وتشكيل حكومة وحدة وطنية، والعودة إلى دستور العام 2004، الذي يحول البلاد إلى دولة برلمانية رئاسية، ويحد من صلاحيات الرئيس. وزار أوكرانيا، خلال الاحتجاجات، وزيرا خارجية ألمانيا وبولندا، ودخلا في وساطة مع المعارضة أسفرت عن توقيع هذا الاتفاق. ووقع الوسطاء الأوروبيون على الاتفاق بصفتهم شهوداً، لكن مبعوثاً روسياً حضر المراسم لم يوقع الوثيقة. ونقلت وكالة انترفاكس عن المبعوث الروسي قوله إن موسكو لديها تساؤلات بشأن الاتفاق. وفي موسكو، قال الكسي بوشكوف، رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الدوما الروسي، وعضو حزب روسياالمتحدة: إن الاتفاق سيكون إيجابياً اذا أنهى العنف. واستطرد قائلاً: "لكنني لا اعتقد أنه سيحل أياً من المشاكل الرئيسية التي تواجهها أوكرانيا، مثل الاقتصاد والعلاقات العرقية وسبل الحكم. المعارضة متباينة وستبدأ الشجار مع بعضها البعض." وبعد ساعة من توقيع الاتفاق، صادق البرلمان الأوكراني بأغلبية 386 صوتاً على العودة إلى دستور عام 2004، كما صادق على تعديلات في القانون الجنائي، سمحت بإطلاق سراح رئيسة الوزراء السابقة يوليا تيموشينكا، وجميع الذين جرى اعتقالهم أثناء الأحداث الأخيرة. وتعتبر أوكرانيا ثاني أكبر دولة في أوروبا من حيث المساحة، بعد فرنسا. ويبلغ تعدادها السكاني 46 مليون نسمة، وفقاً لمؤشرات العام 2014، ينحدر أكثر من 40% من السكان من أصول روسية. وتُعد أوكرانيا دولة صناعية، ومصدرة للمعدات والتكنولوجيا المدنية والعسكرية. ولقد أفصحت الأزمة الأخيرة في أوكرانيا عن طبيعة المعضلات الجيوسياسية المستجدة في عصر ما بعد الحرب الباردة بين الشرق والغرب، وأوضحت أن المشكلات القائمة يصعب حلها دون مقاربة متكاملة، تلحظ الاعتبارات والخلفيات الجيوسياسية المتباينة. مسار التجاذب الروسي الغربي وأحدثت الأزمة الأوكرانية توتراً إقليمياً واسعاً، ودخل الغرب في سجالات مع روسيا، وسط اتهامات متبادلة، سبقت بداية توقيع اتفاق المصالحة الوطنية، لكنها استؤنفت بعد إطاحة البرلمان بالرئيس يانوكوفيتش. وفي موقف عكس مناخاً حاداً من التوتر الإقليمي، أعلن رئيس الوزراء الروسي، ديمتري ميدفيديف، في الرابع والعشرين من شباط فبراير 2014، إن روسيا لديها شكوك كبيرة بشأن شرعية الذين يتولون السلطة في أوكرانيا بعد الاطاحة بالرئيس فيكتور يانوكوفيتش، معتبراً أن الاعتراف بهم من جانب بعض الدول يمثل "خروجاً عن المألوف". وأضاف قوله: "لا نفهم ما الذي يدور هناك. يوجد تهديد حقيقي لمصالحنا ولحياة مواطنينا." وينبئ هذا الموقف بمستقبل صعب للعلاقات الروسية الأوكرانية، كما الروسية الغربية. وقد قررت روسيا استدعاء سفيرها في كييف "للتشاور"، وقالت وزارة الخارجية في بيان إنه "بسبب تصعيد الوضع في أوكرانيا وضرورة تحليل الوضع الراهن من جميع جوانبه، فإن القرار اتخذ باستدعاء السفير ميخائيل زورباروف إلى موسكو ". مسنة أوكرانية ترفع العلم الروسي خارج مبنى المخابرات في مدينة لوغانسك شرقي أوكرانيا (أ.ف.ب) وأبلغ وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، نظيره الأميركي جون كيري أن المعارضة "استولت على السلطة" بالقوة بتجاهلها هدنة توسط فيها الاتحاد الأوروبي، ابقت على يانوكوفيتش في الوقت الراهن. وقال لافروف أنه يتعين إحياء اتفاق تقاسم السلطة. وتتبادل روسيا والاتحاد الأوروبي الاتهامات منذ قرار كييف، في تشرين الثاني نوفمبر 2013، تأجيل خطط لإبرام اتفاق تجاري مع بروكسل، وهي خطوة أشعلت اضطرابات كبيرة في أوكرانيا. وكثفت روسيا الضغوط على أوكرانيا عندما ربطت بين تقديم الشريحة الثانية من حزمة مساعدات بقيمة 15 مليار دولار، وبين سداد فاتورة الغاز المستحقة لشركات روسية، والبالغة 2.7 مليار دولار. وكان يفترض أن تسدد أوكرانيا قيمة الغاز في أواخر كانون الثاني يناير الماضي. وكانت موسكو وافقت في كانون الأول ديسمبر 2013 على تقديم قروض لكييف، وتزويدها بالغاز بأسعار رخيصة، لمساعدتها على الوفاء بسداد مدفوعات الدين الضخمة. أوكرانيا في حيرة بين علاقاتها الثقافية والتاريخية الطويلة مع روسيا وبين تطلعها لاندماج أوثق مع أوروبا التجاذبات الروسية الغربية على صعيد مسار التجاذبات الروسية الغربية، التي سبقت الإطاحة بالرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش وحكومته، قال مسؤولون في كل من الولاياتالمتحدة والاتحاد الاوروبي وحلف شمال الأطلسي أن على موسكو ألا ترغم كييف على الدخول معها في تحالف لا يحظى برضا الأوكرانيين. وقال وزير الخارجية الأميركي، جون كيري: إن المحتجين يعتقدون أن "مستقبلهم يجب ألا يكون معلقاً على دولة واحدة فقط، وبالتأكيد ليس بالإكراه." وأضاف: "الصراع من أجل مستقبل ديمقراطي أوروبي أصبح أكثر أهمية اليوم في أوكرانيا عن أي مكان آخر... الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي يقفان مع شعب أوكرانيا في هذا الصراع." ورد عليه وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، بنفس الاتهام قائلاً: "لقد جرى التأثير على الخيار السياسي لأوكرانيا"، متهماً بعض ساسة الاتحاد الأوروبي بالتحريض على احتجاجات عن طريق متظاهرين "يستولون على أبنية حكومية ويهاجمون الشرطة، مستخدمين شعارات عنصرية ونازية، ومعادية للسامية." وكان الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، اندرس فو راسموسن، قد هاجم روسيا لممارستها ما اعتبره ضغوطاً على كييف كي لا توقع اتفاقاً للتجارة الحرة مع الاتحاد الاوروبي. وقال راسموسن في حديث لصحيفة لو فيجارو، في 29 من كانون الثاني يناير 2014: "كان اتفاق الارتباط مع أوكرانيا سيعطي دفعة كبيرة لأمن أوروبا والمحيط الأطلسي. آسف حقاً لأنه لم يتسن إتمامه."وأضاف: "السبب معروف... الضغط الذي تمارسه روسيا على كييف." وبعد الإطاحة بالرئيس يانوكوفيتش، تزايدت التوترات بين روسيا والغرب، فيما يشبه حرباً باردة جديدة. مركبات عسكرية تحمل العلم الروسي في طريقها إلى بلدة كراماتورسك شرقي أوكرانيا (أ.ب) وقالت مستشارة الأمن القومي الأميركية، سوزان رايس، إن روسيا سترتكب "خطأً جسيماً" إذا أرسلت قوات عسكرية إلى أوكرانيا، وإن انقسام أوكرانيا لن يكون في مصلحة روسيا أو أوروبا أو الولاياتالمتحدة.وقالت رايس: "لا يوجد تناقض متأصل... بين علاقات أوكرانيا الثقافية والتاريخية الطويلة مع روسيا وبين أوكرانيا الحديثة، التي تريد اندماجاً أوثق مع أوروبا." كذلك، عندما سئل وزير الخارجية البريطاني، وليام هيغ، عن احتمال "إرسال روسيا دباباتها" للدفاع عن مصالح المتحدثين بالروسية في شرق أوكرانيا، قال: "لن يكون من مصلحة روسيا حقاً أن تفعل أي شيء من هذا القبيل.. هناك العديد من مواطن الخطر وعدم اليقين." وكان مساعد للرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، قد هدد بتدخل روسيا للحفاظ على الأوضاع في أوكرانيا. وقال سيرغي غلازييف، مستشار بوتين والمسؤول عن العلاقات مع أوكرانيا، في تصريحات صحفية، قبل الإطاحة بالرئيس يانوكوفيتش، إن تدخل الغرب ينتهك معاهدة أبرمت عام 1994 وتضمن واشنطنوموسكو بموجبها أمن وسيادة أوكرانيا، بعدما تخلصت من ترسانتها النووية التي تعود للعصر السوفياتي. ورداً على أسئلة لصحيفة كومرسانت - أوكرانيا عما إذا كانت روسيا "ستتدخل بنشاط" إذا تفاقمت الأزمة الأوكرانية، أشار كلازييف إلى معاهدة 1994، وقال إنها تلزم بالتدخل عندما تنشب صراعات من هذا النوع. وتنص المعاهدة على ضمانات جماعية وعمل جماعي. وسبق أن قاد غلازييف حملة للكرملين العام الماضي، هددت بفرض عقوبات اقتصادية على أوكرانيا، إذا قبلت اتفاقاً مع الاتحاد الأوروبي. والآن، سيكون لتحول السلطة لصالح معارضي يانوكوفيتش دور في دفع أوكرانيا إلى استئناف مسعاها للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. وقالت رئيسة الوزراء السابقة، يوليا تيموشينكو، بعد خروجها من السجن: "أنا متأكدة من أن أوكرانيا ستكون عضواً في الاتحاد الأوروبي في المستقبل القريب، وسيغير هذا كل شيء". ويعتبر الرئيس فيكتور يانوكوفيتش، شخصية قريبة من روسيا، ومعارضا لانضمام أوكرانيا لحلف الناتو. وقد وصل لسدة الرئاسة في الانتخابات الرئاسية التي جرت في شباط فبراير 2010، وتنافست معه فيها يوليا تيموشينكو، والرئيس الأسبق فيكتور يوشينكو، الذي خرج من الجولة الانتخابية الأولى. تحديات اقتصادية متزايدة واذا كانت أوكرانيا قد دخلت اليوم مشهداً سياسياً جديداً، أعاد إنتاج تحالفاتها الدولية، فإن مستقبلها الاقتصادي لا يبدو على درجة كافية من الوضوح. إن القوى الغربية التي دعمت السلطة الجديدة سوف تتجه على الأرجح لتقديم العون المالي والاستثماري لها، لكن ذلك دونه شروط ومتطلبات إصلاحية طويلة الأمد، كما أن الروس الغاضبين سوف يتوقفون عما كانوا بصدد تقديمه للأوكرانيين. وهم قد توقفوا فعلاً منذ الآن. وفي الأصل، تعاني أوكرانيا صعوبات اقتصادية لازمتها منذ استقلالها عن الاتحاد السوفياتي عام 1991، وذلك على الرغم من كونها دولة صناعية، ذات موارد طبيعية وبشرية كبيرة. وفي 21 شباط فبراير 2014، خفضت مؤسسة ستاندرد آند بورز التصنيف الائتماني لأوكرانيا للمرة الثانية في ثلاثة أسابيع، مشيرة إلى تزايد خطر العجز عن السداد. وقالت المؤسسة إن التطورات الأخيرة في الأزمة ستقلل من احتمالات حصولها على المساعدات الروسية التي تحتاجها. وأبلغت كييف بورصة إيرلندا أنها ألغت إصداراً مقرراً لسندات أجنبية لأجل خمس سنوات بقيمة ملياري دولار. وكان من المقرر إدراج هذه السندات في البورصة الأيرلندية. وكانت كييف تأمل أن تشتري روسيا السندات لمساعدتها على تفادي الإفلاس. وبعد الإطاحة بالرئيس يانوكوفيتش، اقترحت السلطات الأوكرانية الجديدة تنظيم مؤتمر دولي للمانحين، من خلال تعاون مع الاتحاد الأوروبي والولاياتالمتحدة وصندوق النقد الدولي. وقال وزير المالية الأوكراني بالوكالة، لوري كولوبوف، إن بلاده بحاجة لنحو 35 مليار دولار في عامي 2014 و2015، داعياً لعقد مؤتمر دولي للمانحين. وأضاف أن كييف طلبت من شركائها من دول الغرب (بولندا والولاياتالمتحدة) منحها قرضاً في غضون أسبوع أو أسبوعين. وسبق لوزير الخزانة الأميركية، جاك ليو، أن حث أوكرانيا على بدء المباحثات في أقرب وقت ممكن مع صندوق النقد الدولي حول حزمة مساعدات، وذلك بمجرد تشكيل حكومة انتقالية. ورأى أن هناك دعماً كبيراً لإقرار حزمة يدعمها الصندوق. ومن ناحيته، قال أولي رين، مفوض الشؤون الاقتصادية والنقدية في الاتحاد الأوروبي، إن الاتحاد مستعد لتقديم مساعدات مالية كبيرة لأوكرانيا.وقال بعد اجتماع لوزراء مالية مجموعة العشرين في سيدني: "من وجهة النظر الأوروبية ثمة ضرورة لتقديم منظور أوروبي واضح للشعب الاوكراني الذي أبدى التزاماً بالقيم الأوروبية." وأضاف: "نحن مستعدون لتقديم مساعدات مالية كبيرة لأوكرانيا حالما يجري التوصل لحل سياسي يستند لمبادئ الديمقراطية، وحين يتم تشكيل حكومة جديدة تشرع جدياً وفعلياً في إصلاحات مؤسسية واقتصادية." وفي السياق ذاته، أعلن وزير المالية البريطاني، جورج أوزبورن، أن لندن مستعدة لتقديم دعم لأوكرانيا بواسطة برامج صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي، وقال: "يجب أن نكون هناك مستعدين لتقديم المساعدة المالية من خلال منظمات مثل صندوق النقد الدولي، وبالطبع كثيراً من ذلك سيأخذ شكل قروض وما شابه، ولكن ستكون هناك استثمارات جيدة في اقتصاد أوكرانيا".