المبالغة، تلك اللمسات الخفية والتحليق الخيالي بالعبارات التي قد تزين الشعر والشاعر، أو تقلل من مصداقيته فيما يقول، ذلك التحليق الذي يصل إلى حد الارتفاع الذي يمكن الجميع من رؤيته في السمو البديع، أو يبتعد كثيراً في مبالغته فيتجاوز رؤيتهم فيختفي ويتعدى حدود المعقول فيتراجع قبول قصيدته وتؤلم سقطته. المبالغة ذلك الأسلوب الذي ينبع مباشرة من مشاعر القائل وأحاسيسه وتتلقاه المشاعر أيضاً والأحاسيس، إن لم يستخدم استخدام الملح في الطعام أفسد القصيدة وجعلها تهريجاً مملاً بل وربما خرجت المبالغة بالقصيدة إلى حدود منزلقات خطيرة في الدين والأعراف والعادات ورفضها جل من يتلقاها. ما ينطبق على الشعر والقصائد في المبالغة أو الافتعال لا ينطبق على كل الأساليب البلاغية والبيان وكل تبيان وقول، ذلك لأن المبالغة في بعض الكلام إما غير ممكنة أو لا يتناسب الأخذ بها كتحسين للأسلوب والقول وليس في حاجة لها، فليس كل مبالغة بلاغة ورقي بالمنتج الأدبي ولا كل ما بين أيدينا قابل لأن تتصل به المبالغة من أجل البيان والبديع. وفي مصطلح المبالغة كالمشاركة والمعاونة، نقول: بالغَ الشاعر في المدح أو الذم، يبالغ فيه، مُبالغةً، فهو شاعر مُبالِغ، والمدح والذم والوصف..الخ مُبالَغ فيه. والمبالغة في الكلام: تجاوز الحد فيه، وفي الأكل والشرب: الإفراط فيه. وعندما نطلب من شخص عدم المبالغة في الشيء فمطلبنا هو الاقتصار على الحقيقة. وبَالَغَ في شيء مبالغة، وبلاغاً: اجتهد فيه واستقصى هذا بعض مما ورد في معاجم اللغة توضيحاً لطرف من معنى المبالغة. والمبالغة ينظر لها من جوانب كثيرة، أولها لماذا يلجأ إليها المتكلم أو الشاعر، فهي وإن كانت متاحة وبشكل ميسر إلا أن البعض يرى أن في اتخاذها طرفاً من العجز عن تقديم المنتج الشعري والقصيدة بمعنى جيد وإبداع من حيث المعاني والصور الفنية، وضعف في القدرة على استخدام المحسنات من بديع القول وبليغه، فالمبالغة أسهل من هذه الناحية وطريقها سالك وميدانها رحب، وهذا القصور يضطره إلى توليد واستحداث تكرار للمعنى نفسه بشكل مبالغ فيه وقد يخرجه عن دائرة المقبول والمعقول إلى غير المرفوض بل إلى الكذب وربما إلى استخفاف العقول. لكن يرى بعضهم أن جانب المبالغة من ضرورات القصيدة أيضا، ومن أهم ما يفترض أن تتضمنه وتأخذ به، فبدون المبالغة يكون المطروح واقعاً، والمتخيل فيها جامدا يراه الشاعر بحسه وشعوره كما يراه غيره فلا يتمايز ولا يمتاز بشيء، ولا يفرق عنهم بشيء، وربما كانت القصيدة تخيلاً وخيالاً مفرغاً من عنصر التشويق والتحليق في صورة فرضية، فالمبالغة في حد ذاتها تشويق، فالشاعر عندما يبالغ فإنه ينتقل برؤيته ليفتح صفحة خيالية ويعرض مشهدا مختلفاً لا يتوقعه المتلقي، يحلق به في عالم نسجه شاعر القصيدة بمكونات افتراضية لا تكون واقعية، وبالتالي يشتاق لمتابعة ذلك المشهد ويعجب به أحياناً وبحسب توافقه مع المعقول والممكن. وقد فهمنا وألفنا وفهم الكثيرون بأن المبالغة تعني الانتقال بالمشهد إلى حيز مرفوض دائما، وأنها في أحيان كثيرة مرادفة للكذب والتملق الأقرب ما يكون إلى الاستخفاف، وهذا الفهم يتضح من كثرة ترديد الرفض للمبالغة التي تأتي في أقصى درجاتها، ولكن لا يتناول الرفض درجات المبالغة العادية والأخيلة البديعة المقبولة عقلا وحساً وواقعاً. و كما أن لكل شيء درجات فإن المفردة نفسها (المبالغة) لها أيضا درجات فنجد على سبيل المثال شبيها لها للتوضيح في مجال الاقتصاد فنقول ارتفعت الأسعار ويعني زيادة الثمن في السلعة ولو هللة واحدة ولكن حد الزيادة إلى ما لا نهاية، فقد تكون الزيادة قليلة جدا ولكننا نتصور الأعلى والأكبر، ومثله في الانخفاض يكون بهللة وقد يكون بنقص حاد جدا، وكله يسمى انخفاض. فالمبالغة في إيصال المعنى عبر مضامين القصيدة تأخذ عدة درجات فهي تبدأ بتغيير واقع الشيء وحاله بدرجة مقبولة فتكون بهذا ضرورية للاستمتاع بالأخيلة والصور الفنية وجمالية النص والمعنى والتحليق مع الشاعر في رؤيته وتجسد إحساسه، بشرط أن يكون هذا كله في إطار المقبول من قبله هو وكذلك من قبل المتلقي، وأيضا يستجيب له الواقع، ويتفاعل مع مكونات تلك المبالغة، فمثلا لو بالغ الشاعر في مدح شخص وأثنى على صاحب فعل في مجال الجود والكرم مثلا بوصفه لا يبقي شيء في يده إلا أنفقه، لصار هذا متوافقاً مع الممكن، حتى ولو أن المسألة تضخيم كرم ضيافة عادية، وافقت في نفس الشاعر قبولا ورضا فبالغ في وصف الوضع الذي قابله، وهو لا يتعدى كونه دلة قهوة وذبيحة واحدة، لأن إنفاق كل ما في اليد حالة ووصف يتكرر مع أناس كثيرين وليس نشازا يرفضه التصور والعقل ولا يبعد بالخيال ولا يشطح به إلى درجة مرفوضة وغير مقبولة والنماذج الواقعية تعترف بهذا وتثبته وبالتالي فهذا الحيز الذي تحرك الشاعر فيه بالمبالغة مسموح له فيه بأن يبدع. في المبالغة المقبولة يقول الشاعر علي بن سعد بن قاسم: أنا لوه يداويني نحرته واستلذ دواه فلكن قاسي ما هوب لا يرحم ولا ياوي صواديف الدهر تصدف رحل عن سوقنا وش جاه عسى ربي يسمح دربه اللي تو هو ناوي أنا لوه يبيني كان بسياقه ندور رضا وأضيّف بالغنم له كلها لا يسرح الشاوي وفي قصيدة الشاعر حميدان الشويعر يعتذر من ابن معمر مبالغات كثيرة، لكنها لا تتعدى حد المعقول والمقبول، وبالتالي فهي درجة من المبالغة تعطي القصيدة قبولا أكثر مما لو ألقاها خالية من ذلك. ومنها قوله: رفيع الثنا عثمان ابن معمر اله الملا عن راعي العين حارسه هزبر التلاقي واحش الرف والحمى وراعي جفان تجري القاع دانسه والى قنصت شيخانها في حصونها فهو فيه همات تواما عرامسه خذ العدل من كسرى ومن حاتم الصخا ومن احنف حلمه ومن عمرو هاجسه عثمان شط النيل ماهوب نقعه إلى بال فيها بايل قيل ناجسه ولك الله ما مدحي بباغي وفاده اليك ولا بكفيك منها بيابسه لقد رفضت المبالغة إلى درجة أصبحنا معها نصنفها ضمن المرفوض على الدوام، و من تكرار الرفض لها أصبحنا لا نستحضر سوى سقف المبالغة العلوي ونسينا أن لها درجات عديدة. والحقيقة أننا نريد من الشاعر والمتكلم والمعبر باي وسيلة على وجه العموم أن يكون بليغاً له بيان يجذب المتلقي بأسلوبه يتضح مراده وويصل إلينا مقصده، مع استخدام المبالغة، لكن يظل هذا الاستخدام في حدود المقبول من درجاتها التي تعطي للشعر تأشيرة السماح بتلقيه بالرضا بعيدا عن الانحطاط والمآثم والاستخفاف بعقول المتلقين والتغرير بالسامع والضحك على الأفهام وتجاوز الإطار الذي يحدد الممكن، ولا ينساق وراء مغريات أو حتى مجبرات تأسره وتسيره فيكذب ويصدق نفسه. وإذا كان الشاعر باعتباره جزءا من منظومة واسعة، يقف عاجزا ولا يستطيع فصل وعزل نفسه عنها وعن ثقافتها سائراً مسيراً في فلكها وخاصة الاجتماعية التي هو منها وداخلها، وأحياناً بل غالب تمارس على حريته سلطة خفية ضمنية يدركها ويعمل من أجل التعايش معها طواعية نقرأ في صفحات التاريخ نماذج عديدة، أن شاعراً مدح من لا يستحق المدح وألبس الممدوح حلة الكمال والجمال وربما نقله من مرتبة البشرية التي هو عليها بينما هو من القبح والضعف وهزال الرأي بمكان، وهو بهذا يستخف به إلى درجة كبيرة والمقصد كله تقرباً لقرابة أو منافسة به على مكانة أو تعصباً من أي نوع، أو تكسباً يريد أن يحصل منه على مال. لكننا نجد مبالغة من بعض الشعراء جيدة، لا شأن لها بتزلف ولا بتكلف تتخذ من الوصف والتصوير ما يعجب المتلقي ويعرض من خلاله فكرته مع المبالغة التي لا تمس جانب المرفوض وإن كانت تجعل من غير المعقول بواسطة الخيال الواسع مقبولا، كما جاء في قصيدة الشاعر إبراهيم بن جعيثن رحمه الله، حيث يقول: أمشي كني في مرجاحه مشي وقعود ودلباحه كني من ضَلْعٍ في رجلي طير مكسورٍ جناحه يهدّونه ولا ينهَض للصيد يصبّح مصباحه مع ذا وقتي مجافيني والدنيا عني جماحه أدخلت ريال في داري واوذاني من كثر صياحه يبي يظهر وأنا أرده والباب اخفينا مفتاحه سديت الكوه بشماغي والباحه سدت بالساحه حتى الفرجه سديناها بالثوب اللي في مصطاحه أشوفه يرقى ويحوّل غدا له بالدار رداحه نمت وظنيت أنه نايم هقيت انه في مصباحه أثره يسبرني ويكذّب يدري ما عندي له راحه حول عجل مع المثعب وهو يدري وين مراحه كتّ البطحا وهو خايف والى التاجر في تفاحه جبت شهود أنه في الجَره رده لي واعطيك طراحه قال ريالي وش جابه لك يومي لي عنك بملواحه ماوده بك ولا دارك ما تبخص نفعه وارباحه أيّست وجينا في الصلحه ردينا لدرب السماحه عطاني هيل في جمعي وزنه ولافيها رجاحه ومن عجائب المبالغة في عموميات المدح غير الموجه لشخص ما بعينه، تملقا أو تكسباً قول أحدهم قصيدة ليس فيها تجنياً ولا تعدياً ولا استخفافاً بالعقول ولا تجاوزا للمعقول، يقول فيها شاعرها: والله لو جابوا جميع المزايين من الخليج من اليمن وارض لبنان والقاهرة مع ليبيا ماتكفين ودمشق والمغرب وتونس وعمان ياجعلهن فدوة لمدعوجة العين اللي خذت قلبي لها القلب ولهان