"أن نقرأ يعني أن نحلم"، والحلم تحليق الروح في فضاءات ومداءات لامحدودة ولكنها تعني الشيء المترسب في جوانية الإنسان على منذ مدى بعيد في تراكمات تفاجيء بغتة دون مقدمات، وبدون تحضير مسبق، إذ تَمْثلُ في شاشة المخيلة كأحداث في حقيقتها، وهي في رأي (غاستون باشلار) تأكيد للحقيقة التي تواجه كمكاشفة للذات أمام الذات (= ذاتها) وفي القراءة تكمن معاني الكتابة لكون القراءة زاد والكتابة إفراز من الزاد بتشكل خاص لصاحب هذا الإفراز الذي يختلف بين إنسان وآخر، وفي هذا التباين تتضح سعة الإطار الذي يحتوي الشاشة من رؤى مختلفة بين قول وقول ولو في معنى واحد، إذ الشكل يخضع فيها لمزاج المعني بهذا القول والمنتج أولاً، والشعر منتج يمارسه الشاعر حسب تموجاته النفسية وتبعا لتصوراته المتأتية من المنابع التى كونت المعطى من القدرة المكتسبة المصاحبة للاستعدادات الفطرية لدى من يتوجه إلى عملية البوح بالعبارة الشاعرة، المتمثلة في النص الموجه من قبل الشاعر إلى الآخر كتعبير عن حالة، فكل نص له في قارئه نبع لاهو الأول ولن يكون الأخير –حسب رأي خالدة سعيد– حيث تُكمل: "فالقول الشعري هو بمعنى ما، خلخلة لتوازن سابق ويقين مستريح وسكينة مستقيلة، هو استحضار مالا يحضر نهائيا، ثم أن القول الشعري رسالة ولامُرسَل إليه معيَّناً" لهذا عند مواجهة الشعر يتوجب محاولة خرق جدار الاستقبال بمعاونه المخزون المعرفي لدى قارئ الشعر الذي خبر الشعر قراءة مما تلقاه كتابة أو سماعا من الشاعر والشاعر الآخر. في ديوان (حجر النار) للشاعرة الأسبانية (كلارا خانيس) تستحضر الشاعرة على خشبة مسرحها الخيالي الشاعري أسطورة (ليلى والمجنون)، حيث تنبئك بأنها درست بتمعن شعر (مجنون ليلى) وعرفت قصة حياته كما ُصِّورت في التراث وتواترت على مر الزمن، ويذكر المترجم د/ طلعت شاهي في تقديمه للديوان وتعريفه بالشاعرة: "الكتاب الذي نحتضنه بين أيدينا عن أسطورة مجنون ليلى كان فصلا جديدا، أو كان تلك المغامرة المجنونة في رحلة (كلارا خانيس) الطويلة مع الشعر إبداعا وترجمة فقد قدَّمت قبله خمس عشرة مجموعة شعرية وخمس روايات من بينها (رجل عَدَنْ) التي استوحتها خلال رحلة استكشافية شعرية حقيقية قامت بها إلى اليمن قبل أعوام قليلة، وهي قد تعاملت مع اسطورة المجنون من منطقها الخاص المغاير لمنطق الحياة اليومية، بل هو مغاير لمنطلقات معظم الذين تعاملوا مع هذه الرواية العذرية" فلو أصبحت ليلى تدب على العصا لكان هوى ليلى جديدا أوائله هو المجنون قيس بن الملوح، أمير المحبين وقائدهم، تبدأ خانيس بكلمات تحت عنوان: (الأعذار والأسباب التي كانت وراء هذا الكتاب): أنت لاتعيش في حياتك ولا في الأزمنة التي تمضي إنهم يتساءلون أين تعيش؟ فتجيب: في العشق. تحولت شراييني إلى وديان من المرايا. تمنح هذه الأسطورة معناها أسطورة شابين عثر كل منهما على الآخر بعد سفر طويل تداخلا، وصار كل منهما الآخر وبقيا في سكون هذه الحال المحبوب لا يسكن الفلا بل في عمق الأحلام. تذهب الشاعرة الى مدخل يمكن أن تلج من خلاله إلى الأسطورة التي أحبتها وامتزجت بها وكأنها عنصر من عناصرها الأساسية في تفاعلها، وتريد أن تبرز الصورة بالقدر الكافي الذي يدفع المتلقي أن يتقبل المشاهد المتمثلة في أحاسيس الشاعرة التي توغلت في أعماق الحدث لكي تكون قادرة على الرسم بالكلمات الموشاة بالعواطف والأزهار وكأنها تزف المشهد إلى الآخر بشكل مبهر تترقبه الأنفس بكل ارتياح: مزق الصمت طائر.. اشتعل التوهج كحجر من نار، وامتلأت يداي من أجلك بلهب تنِّيني، أسميك قيساً، وأؤكد أنك أحببتني في طفولتك، كما أحببتك أنا، قبل أن تلقي غيمة بظلها العبوس عليك، ألهث باتجاه تلك اللحظة، وألحق ببئر الفرح. وعندما يفتش الشاعر عن الشفافية التي يتمثلها في محبوبته، ويعايشها واقعا في انعطاف باطني متموج يجعله في حالة أشبه بالهذيان: أيتها المحبوبة أنزعي عنك الخمار ودعي الأزهار تشرق بكاملها. ثم تنتقل الشاعرة إلى (كيف يبحث المجنون عن عشقه): أُحب ليلى/ الطفلة الأجمل بين بنات القبيلة حديثها لاينطق سوى الفرح، إنها تشبه الوان حرير اليمن، وحين تبتسم تخطف بصري بلآليء عدن، وحاجباها قوس اشتياقي، عيناها معبِّقتان بالدنانير إنها كنز أحلامي الخفي. يصعب أن أنقل جميع النصوص، ولكن ارتباطها ببعض لضرورة استكمال الصورة التي رسمتها الشاعرة بدقة يجبرني على أن أكون حذرا ودقيقا عند التنقل لكي لا اشوه صورة جميلة تستحق عدة وقفات سأعمل على إخراجها سليمة قدر المستطاع لاحقا.