أحسنَت جاهدة وهبه عملاً بأنّها لم تحدّد نوع كتابها الجديد «الأزرق والهدهد: عشق في الفايسبوك» (دار الساقي 2012). رمَت وهبه قارئها في دوّامة الحيرة المذهولة والاندهاش المأخوذ بطرافة النصّ: فلا أنتَ أمام رواية ولا أنتَ أمام قصّة قصيرة ولا أنتَ أمام فنٍّ نثريٍّ حديث، بل قلْ أنت أمام نثرٍ شعري يتراقص على جدار الفايسبوك الوهمي: «شكراً لغرف الفايسبوك التي مكّنتنا من أن نرصد النجوم الغريبة... ونسترق النظر إلى الشهب السريّة الرهيفة... وأتاحت لنا فرصة أن نعيش بعضاً من الحياة الأخرى... حياة الخيال والمجاز التي تطرق أبواب قلوبنا على غفلة ولا ننتبه إليها ونحن منخرطون في الاستعارات اليوميّة البليدة. شكراً لكِ هدى لأنك أضفتني إلى قائمة الأصدقاء والمجانين...» (ص:9). وللفايسبوك حكاية طويلة، فعلاقته بالنصّ وطيدة حميمة، رسّختها مصمّمة الكتاب سحر مغنية بكونها جعلَت صفحات الكتاب نسخة متطابقة مع هندسة صفحة الفايسبوك الالكترونيّة. فقد تحوّلَت صفحات الكتاب إلى وجه الفايسبوك الجامد بكلّ تفاصيله وألوانه وأماكن النوافذ فيه. واعتماد هذا التصميم للكتاب هو العمود الفقري للكلام، لكون القصّة هي قصّة عشق غريبة، فريدة من نوعها على الفايسبوك. ويحمل عنوان الكتاب في طيّاته مجمل مرسلة الكتاب، فالقسم الأوّل يشير إلى اسمي البطلين: هدهد هي هدى زاد العاشقة اللبنانيّة، والأزرق هو اللقب الذي تمنحه لمعشوقها إدير. أمّا القسم الثاني من العنوان، وهو «عشق في الفايسبوك»، فأهمّيته في النص هي أنه المكان والزمان والأحداث والعقدة والحل وكل الصفحات والكلمات والحروف. غزل وصبابة قلَّصَت وهبه ليالي شهرزاد من الألف ليلة وليلة إلى خمس ليالٍ يكتنفها العشق والشعر. ليالي عشق في الفايسبوك هي ليالي وَلَهٍ مجبول بلغة عفوية وتعابير يتناوب خلالها شهريار وملكته على غزْلِ كلمات وَجْدٍ وصبابة: «يقولون إنّ الموت وحده هو الذي يأتي من دون سابق إنذار... فماذا أسمّيكِ سيّدتي... أنتِ التي أتيتِ بسابق إعصار... موتًا...؟ أهكذا هو الموت جميل...؟ يا توليبة عمري أنتِ... جِدِي لنا موتاً بهيّاً شهيّاً يليق بنا... ولا تهتمّي لأمر موتي... فما أنا إلا ابن الشعب... سأكون سعيداً إن قالوا إنني متُّ بسببكِ...» (ص:51). تقدّم جاهدة وهبه لقارئها إذن، قصة عشق عربي خالص، على طبق غير مألوف من الحداثة التكنولوجية المتعلقة بعالم الوهم، فهذا الكتاب هو مجموعة نصوص أرسلها الشاب المغربي الأصل إدير إلى هدى زاد، نصوص تجيب عليها هدى بأسلوب يضاهيه، أو حتى يتخطاه جرأةً. بنية النص قائمة على ليال خمس متتالية يقضيها الحبيبان في لعبة كلمات عذبة: الليلة الأولى ليلة غودو، وهي ليلة 26-27 كانون الأول 2009، والليلة الثانية هي ليلة العنقاء، والثالثة ليلة التوليب، والرابعة ليلة هدى زاد، والليلة الأخيرة هي ليلة الأنثى، ليلة 30-31 كانون الأوّل 2009. أمّا ليلة 31-1 كانون الثاني، وهي ليلة رأس السنة، فهي ليلةٌ يقضيها العاشقان بصمت. وتختار وهبه أن تفتتح نصّها بما تكتبه هدى زاد على جدارها فجر الأول من كانون الثاني 2010، كلامٌ تحزن فيه لصمت إدير في الليلة السابقة. في هذه الليالي، تنصهر اللغة في الأفئدة وتتحول أداةَ غوايةٍ وتبجيل للآهات المشتاقة. وتحوّل الموت من شيطان قاتم إلى فناء جميل في الحبيب، فناء منتظر منذ الولادة. لا يقع القارئ في هذا المؤلَّف على راوٍ أو كاتب أو بناء قصصي كلاسيكي، فكما هو هيكل الكتاب قائم على «جنون التصميم الحديث»، فكذلك النسيج النصي قائم على ثورة تكنولوجية في عالم السرد، إن أمكن القول، فالنص هو عبارة عن رسائل ونصوص تتناقلها هدى وإدير، الراويان والبطلان والحبكة. وعلى خلاف ألف ليلة وليلة، شهريار جاهدة وهبه يساهم في السبك ويقدّم من ذاته، فهو تارةً خاضع لسلطة الأنثى الخبيرة يسألها أن تعلّمه العشق، وطوراً يُفرغ وجدانه على جداره الوهمي لينكشف عاشقاً من الدرجة الأولى تتمناه كل أنثى: «حدثيني عن قصص الحب في التاريخ... حدثيني عن قيس وليلى عن جميل وبثينة... أريد أن أعرف الحقيقة... عن كل امرئ قُتل بالطريقة نفسها... أنا تلميذكِ سيدتي، فعرّفيني العشق والعاشقين...» (ص:75). «حدث أن جئتِ أنتِ... عاصفة... عاشقة من قبائل غجرٍ تحترف المجاز والغرام... جئتِ من المجهول الجميل... من ذاك الممكن المستحيل، أنثى ولا أنثى سواكِ...» (ص:115). ولا يمكن القارئ إلاّ أن يلاحظ وسع ثقافة جاهدة وهبه، فنجد نصها محفوفاً بالأسماء الأدبية والفلسفية والفنية والتاريخية، أعربية كانت أم عالمية، فها هي تلمّح إلى الحلاّج، أو تذكر أسطراً شعرية لأنسي الحاج أو لحافظ الشيرازي أو لقاسم حداد. كما أنها لا تتوانى عن إيراد مقاطع من أغانٍ يتراسلها العاشقان، كأغنية «سوّلت عليك العود والناي» للطيفة رأفت، أو أغنية «أنجبني»، كلمات أحلام مستغانمي بغنائها هي، جاهدة وهبه. وها هي تذكر محمود درويش من هنا، وزنوبيا وبلقيس من هناك، ثمّ تنتقل بقارئها من طلال حيدر اللبناني إلى ألدا ميريني الإيطالية، كما أنها تارةً تورد قولاً لبابلو نيرودا وطوراً لوحةً لغوستاف كليمت وطوراً آخر تذكر الجوكوندا في معرض حديثها. وتبسط معرفتها بهيغل ونيتشه ومونتاني وابن الفارض، حتى أنها تغيّر معادلة ديكارت «أنا أفكر إذن أنا موجود»، لتصبحَ «أنتِ أنثى إذن هناك وجود» (ص:109). ولا ننكر أيضاً على وهبه معرفتها بالأساطير، فها هي تتناول نيرون والسندباد وإلسا وهدهد سليمان وأسطورة الواو أو الفردوس الضائع المدفون تحت الرمال. ونراها تورد الأسماء والأساطير وتناقشها، أو حتى تذكرها في معرض حديثها، مشيرةً إليها بخصائصها المعروفة عنها، دون أن تُثقل نصّها أو تُخرجه عن جماليّته.