يبدو أن الشاعر الفلسطيني محمود درويش اهتدى مبكراً إلى فكرة جوهرية تؤمن للشاعر تفوقه على أقرانه تتمثل في تفرغه للشعر كما في العيش عيشاً، لا بورجوازياً فقط، بل ارستقراطياً أيضاً فمن يطلع على كتاب صدر حديثاً في بيروت بعنوان «أنا الموقع أدناه محمود درويش» يتضمن حواراً لصحفية لبنانية معه وما يشبه التحقيق عن حياته في باريس في التسعينات من القرن الماضي، يذهل لنوعية الحياة الارستقراطية الرغدة التي مارسها في العاصمة الفرنسية. فالشاعر كان يقيم في شقة فخمة غاية الفخامة في بناية مترفة تقع في الدائرة السادسة عشرة من باريس وهي من أرقى أحياء المدينة. ليس في التحقيق ما يشير إلى أن الشاعر كان يملك هذه الشقة الفاخرة، أو أنه كان مجرد مستأجر لها. فإذا كان مالكاً فلا شك أنه دفع ثمنها، حتى في عام 1991م وهو عام لقاء الصحفية بالشاعر، ما لا يقل عن خمسة ملايين دولار. أما إذا كان مجرد مستأجر، فلا شك ان قيمة إيجارها السنوي لا تقل عن مئتي ألف دولار. ولا شك ان القيمتين، سواء قيمة شراء هذه الشقة أو قيمة إيجارها، مرتفعتان وليس باستطاعة شاعر مفترض ان ميزانيته محدودة، ان يؤمن احداهما، فالشاعر العربي عادة، سواء كان فلسطينياً أو غير فلسطيني قد يتعذر عليه أولاً زيارة باريس استناداً إلى ريع دواوينه، أو إلى ميزانيته الشخصية. وحتى إذا أمكنه زيارتها، فلا ريب أنه سيبحث عن فندق متواضع الشأن ينام فيه قد لا يتجاوز ايجار الغرفة يومياً فيه مئة دولار. فإذا أراد امتلاك شقة فخمة أو استئجار مثل هذه الشقة في باريس، فلا شك انه يتعين عليه الاستيلاء بالقوة عليها سوء بمفرده إذا كان مسلحاً أو بمعاونة عدد من المسلحين. وفي الحالين فإنه لن ينعم بالإقامة في شقته هذه إلاّ لساعة أو ساعات ريثما يحضر رجال البوليس.. ولكن محمود درويش وصل إلى هذه الشقة لا بمفرده ولا بقوة عسكرية معه تابعة لمنظمة من المنظمات الفلسطينية المسلحة، بل بواسطة قيادة منظمة التحرير الفلسطينية وقيادة «فتح» وكلتاهما كانتا بإمرة الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات. فكما اكتشف محمود درويش مبكراً، الفرق الهائل بين شاعر متفرغ للشعر وحده، وشاعر آخر يكدح طيلة يومه لتأمين عيشه وعيش أسرته، اكتشف ياسر عرفات، مبكراً أيضاً، أهمية كسب محمود درويش إلى صفه، أي أهمية جعله يغرد كشاعر داخل هذا الصف أو هذا السرب. صحيح ان هناك شعراء فلسطينيين آخرين غير محمود درويش يغردون لفلسطين ولياسر عرفات، ولكن محمود درويش شاعر آخر. فهو أرفعهم رتبة بنظر الجمهور الفلسطيني والعربي، كما هو أكثرهم تأثيراً ونفوذاً. ولأنه كذلك، فإن أي وقفة غير «منضبطة» للشاعر من شأنها ان تسبب «وجع رأس» لقيادة منظمة التحرير ولقيادة «فتح» هي في غنى عنه. فالسياسة إذن بحاجة إلى الثقافة (والشعر منها) وعندما أدرك أبو عمار ذلك، أحاط الشاعر بكل صور العناية الفائقة، ومكنه من ان يشتري شقة في أفخم أحياء وبنايات باريس، وسواها من الشقق الفخمة في مدن أخرى وأحياء مماثلة. ووضع بتصرفه كل مستلزمات الحياة الرغدة. ولم يكتف عرفات بكل ذلك، بل أولاه مناصب سياسية كثيرة منها منصب وزير مكلف بشؤون الثقافة، ومنصب عضو في المجلس الوطني الفلسطيني، وعضو في قيادة منظمة التحرير. وهناك من يجزم بأن الشاعر اشترك في صياغة «أوسلو» وما يتصل بها من أوراق ومستندات. تظهر الصور الفوتوغرافية التي التقطتها الصحفية اللبنانية لمحمود درويش ولشقته في باريس، مدى «تفرنس» الشاعر في حياته الباريسية. مكتبة فخمة جداً في صالونات الشقة، موزعة على جدرانها وتحتوي على كتب مجلدة، مذهبة، لا شك ان بعضها «للزينة»، كما يفعل الأثرياء عادة، لا للاستعمال. وهناك صور للشاعر وهو يطوف بكامل أناقته مع الصحفية في شوارع باريس والمشاهد برمتها تقدم صورة لحياة مرفهة أبعد حدود الترفيه قد تصدم الكثيرين حتى من عشاق الشاعر ومريديه. ذلك ان «التفرغ» للشعر شيء، وممارسة أقصى صور البورجوازية والارستقراطية شيء آخر. ثم إن هذا الشاعر هو في نهاية الأمر ابن شعب يحيا نصفه تقريباً في المخيمات، داخل فلسطين وخارجها، وقسم آخر من هذا الشعب يحيا في الشتات، وكله أي كل هذا الشعب، ابتلي بنكبة وطنية لعلها الأقسى في تاريخ الإنسانية. على ان حياة الرغد في حياة الشاعر محمود درويش لم تقتصر على الحياة في باريس. فأنى أقام أو ذهب، كان بتصرفه كل ما يتمناه ويشتهيه وربما لم يضطلع بأي مهمة أوكلت إليه قبل باريس أو بعدها إلاّ في حدود الإشراف لا أكثر. فرئاسته لهذا المكتب، أو لهذه المجلة، كانت دائماً رئاسة شرفية أو رمزية. المهم ان يغرد الشاعر في سرب أبو عمار ومنظمته وفتحه، وأن يلتزم «مديح الظل العالي» لا هجاءه وإذا كان ثمن ذلك ثمناً مادياً عالياً، فلا مانع من أداء هذا الثمن، لأن أثر قصيدة محمود درويش يختلف عن أثر أية قصيدة أخرى. ويبدو ان مثل هذه السياسة من أبو عمار تجاه الشاعر نجحت نجاحاً باهراً. كان محمود درويش شاعر فلسطين الأكبر، أي انه كان مسموع الكلمة وله تقدير وافر عند شعبه. وقد التزم في شعره «سياسات» أبو عمار ومنها صورة فلسطين المرجوة مستقبلاً، وهي صورة غير مرفوضة إسرائيلياً لأنها لا تدعو إلى تدمير إسرائيل وتحرير فلسطين بالكامل. إنها صورة «مهدّئة» تتوافق مع سياسات أبو عمار ولا تجد ممانعة عند الإسرائيليين. ولكنها صورة لا يوجد اجماع فلسطيني عليها، وبخاصة من المنظمات الفلسطينية غير «المنضبطة» كمنظمة حماس. وكثيراً ما حمل مثقفو هذه المنظمات على محمود درويش ورؤيته لفلسطين المستقبل واعتبروا ان «الراكاحية» (راكاح هي الخرب الشيوعي الإسرائيلي الذي كان محمود درويش عضوا فيه عندما كان لا يزال في إسرائيل) التي تدعو إلى «الاخوة العربية الإسرائيلية» هي ثابتة من ثوابته. فهو إذن فلسطيني قابل بالكيان الإسرائيلي لا رافض له. ويبدو استناداً إلى مواقف كثيرة لمحمود درويش، أنه كثيراً ما كان «يعترض» على بعض سياسات أبو عمار. ولكن «الاعتراض» كان يتم في السر لا في العلن. يلجأ الشاعر إلى «الصمت» ولا يثير ضجة. ولم يكن في ذلك ما يزعج منظمة التحرير لأن المهم بالنسبة إليها هو أن يبقى الوضع قيد السيطرة. وقد ظل الشاعر حريصاً على التزام هذا السلوك فكما كان شاعر فلسطين، كان شاعر منظمة التحرير وسياساتها. ولا شك ان العناية الفائقة التي لقيها الشاعر من السلطة الفلسطينية قد أثارت خصومه من الشعراء الفلسطينيين الآخرين. صمت البعض منهم ولكن آخرين احتجوا وبالغوا في احتجاجهم. ولكن السمعة التي بناها الشاعر، والحصانة التي أعطيت له، أمكنهما التغلب على أية مواقف سلبية قامت بوجهه. وفي تاريخ فلسطين المعاصر، كما في الوجدان الفلسطيني، لا تقل مكانة محمود درويش عن مكانة أبو عمار والحاج أمين الحسيني. كل ذلك، بما فيها الشقق والمناصب والإنعامات على أنواعها أصبح الآن في ذمة التاريخ، لقد أمكن للشاعر أن يحصل من أموال منظمة التحرير على حصة جيدة ولكنه وظف سعة العيش التي نالها لصالح تجويد شعره وأدبه. لم يكن محمود درويش هذا الشاعر الكبير في تاريخ الشعر العربي في القرن العشرين لو لم يتفرغ للشعر وينصرف إليه على النحو الذي انصرف إليه. لقد توفر من البداية على ما يسمى ببذرة الشاعرية، ولكنه أضاف إليها مع الوقت الثقافة والاطلاع وكل الظروف التي تساعد على انضاج الشاعرية والشعر معاً. ولعله قرأ في صباه ما قاله أمير الشعراء شوقي عن سر تفوقه على زميليه حافظ ومطران. شرح شوقي مرة سر هذا التفوق في اجابة على سؤال، قال فيه بأن الأول أي حافظ إبراهيم يهدر طاقاته ويضيع عمره في الكلام طول النهار، فإذا فاجأه الليل كان متعباً لا يستطيع النظم. أما مطران فقد شغل نفسه بالزراعة والنقابة الزراعية التي كان ينفق عليها بياض نهاره، ولم يكن مصيره إذا جنه الليل يختلف عن مصير صاحبه.. وقد وقف شوقي كل وقته وجهوده - وهما عنصرا الحياة الفنية الخلاقة - على صيانة شعره وتطويره وانضاجه والبلوغ به إلى درجة الكمال. ولم يكن هذا ليتم الا بتوفر أسباب الحياة المادية التي تمكن الشاعر من القيام بها. وقد تهيأت هذه الأسباب لشوقي فكان موسراً وصاحب حظوة في القصر، الأمر الذي مكنه من تذليل الصعوبات التي كانت تقف في وجه غيره من الشعراء الموهوبين الذين حرموا من هذه الأسباب ولم يستطيعوا تنمية مواهبهم وانضاج شاعريتهم وشعرهم بالدراسة المتأنية والتأمل الكثير. ولعل الحياة المادية الرغدة التي توفرت للشاعر محمود درويش، كانت من نوع ما توفر لأمير الشعراء شوقي. لقد تفرغ كلاهما للشعر، فأعطاهما الشعر كل نعمه وكراماته، في حين أنه حُرم من هذه النعم والكرامات شعراء آخرون طغى كدحهم في سبيل لقمة العيش على ذلك الكدح الآخر في سبيل قصيدة مختلفة.