استشراء حالة الفساد في عالمنا العربي لم تعد قصة جديدة بل طالت شتى أنواع المجالات. فاختلاس المال العام لا يختلف كثيراً عمن ينافق صاحب القرار، طالما ان المحصلة الإضرار بالمصلحة العامة للوطن وخيانة الأمانة، فموظف الدولة والمثقف كلاهما له دور يؤديه في المجتمع. ولكن كيف نقيم هذا الدور من الناحية القيمية إن جاز التعبير؟ الحقيقة الأمر يتعلق بالممارسة والتجربة والنتائج على الأرض. ويبدو أن المعضلة عميقة في البلدان العربية حيث تدور في فلك مليء بالعوائق من غياب لمفاهيم الديمقراطية وضمانات حقوق الإنسان ومحاربة الفساد وتفعيل دور المجتمع المدني بمؤسساته المختلفة. إن الفساد الثقافي يتم بالعلاج الذاتي، أي يتعين على هؤلاء وغيرهم من المثقفين، أن يكونوا صادقين مع أنفسهم ويتحلوا بالشجاعة الأدبية في إعلان قناعاتهم والتمسك بمبادئهم بغض النظر عن نتائجها ولمصلحة من، لأنهم يحملون رسالة يفترض أن تكون نزيهة وصادقة تبحث عن الصالح العام، إن ارتهنا للحقيقة وهي مؤلمة على أي حال! وفي ظل هذه المعاناة، كان لا بد لنا أن نبحث عن دور المثقف وعلاقته بالسلطة وإنتاجيته للفساد، حيث لا يمكن إغفال التأثير الذي يفرزه من خلال ما يطرحه من رؤى، لاسيما وإن كان يمتلك الرغبة في كسر أغلال تلك المعادلة ومحاولة خلق توازن لها، أو على الأقل، محاولة فضحها متى ما وجد إلى ذلك سبيلاً. لأنه هو وبموقعه الثقافي يحتم عليه أن يكشف الحقيقة وأن يعرضها بتجرد وموضوعية، وأن يسمي الأشياء بأسمائها لأنه يحمل رسالة نزيهة إن ارتهنا إلى الموقف القيمي، كما أنه في ذات الوقت يقوم بمهمة شريفة هدفها في نهاية المطاف الإصلاح والتطوير، لكن الخطيئة تقع عندما يتحول الكاتب إلى منافق وبوق للسلطة واقفاً معها ومبرراً مواقفها على الدوام، وهنا تحديداً يصبح سلوكه لا يقل خطورة عن الجرم المادي، كونه صورة من صور الفساد لأنه بكل بساطة يداهن السلطة لتحقيق مصلحة ذاتية والوصول إلى مبتغاه بغض النظر عن مشروعية هذا الوصول في الوقت الذي يخدع فيه صاحب القرار. ولاحظ ان القرار فردي في ذاته وهذا صحيح ولكن تأثيره ونتائجه جمعية، أي تؤثر على المجتمع بأكمله، ولذا لو كان القرار خاطئاً، فالنتائج ستكون وخيمة. ولعل من يرتاد بعض المنتديات الثقافية ويصغي إلى طبيعة حواراتها، أو يتأمل المواقع الالكترونية، ويحلل منحى نقاشاتها، يجد أن بعضها يُكرس مفهوم خلط الأوراق، وهذا يعني إشادتها بالكاتب، ليس لإبداعه وأسلوبه، وإنما لكون طرحه جريئاً، أي أن الجرأة هي المعيار، بغض النظر عن قدرته الإبداعية أو محتوى الطرح، وطالما كانت الإثارة وسيلته، والهجوم طريقته، فهو بالتأكيد الأبرز والأكثر إبداعاً! إن أجواء كهذه تمثل انتكاسة وسقوطاً للفكر بل ويصيب المثقف الحقيقي بالإحباط والخيبة. هذا لا يعني التقليل من حماسة أولئك الذين سلكوا النهج الجريء، ولكن ليس على حساب طرح قضايا مصيرية يفترض فيها التروي والدراسة العميقة أو على حساب تاريخ قامات فكرية وثقافية قدمت الكثير لشعوبها وأوطانها. ورب قائل يرى أن القارئ أو المتلقي هو المحك الدقيق الذي يمكننا من خلاله معرفة مدى شعبية هذا الكاتب أو ذاك، وفي هذا بعض الصحة، إلا أن الأكثر صحة هو في أن إطلاق الصفات وتعميمها باستخدام صيغة (أفعل) كأفضل وأبرز وما إلى ذلك من صفات، يعد خطأً جسيماً لا نلبث أن نلمسه في تركيبة العقلية العربية، المثقفة منها والعامة على حد سواء. ومع ذلك صار البعض من مثقفي العرب، كما رأينا في ربوع الربيع العربي، أنهم لم يعيروا اهتماماً للقيم والمبادئ، ونزعوا للبحث عن مصالحهم والتوجه مع التيار العام، ما يعني الهروب من المعالجات الموضوعية للحدث وبالتالي الهروب من المواجهة، مع أن العقل يرفض الانتهازية، والمبادئ تصطدم مع النفاق والفساد والسلبية. لعل من أبرز إيجابيات ثورات الربيع العربي أنها كشفت لنا عن صور جديدة من الفساد. جاء ذلك في وقت عصيب تحول خلاله بعض المثقفين والمبدعين والفنانين إلى صور وأشكال وقوالب متلونة. ركنوا فيها إلى الافتعال والخداع والبحث عن المصلحة، فمن كان داعماً ومؤيداً للنظام طيلة سنين طويلة، لم يلبث أن تحول بقدرة قادر إلى معارض له في أقل من يومين. طبعا أنا لا أعترض على أحقية الإنسان في التعبير عن رأيه، أو في تغيير قناعاته في مرحلة من المراحل لاسيما عندما تتكشف أمور جديدة، أو أن أقلل من ضخامة تلك الأحداث وأهميتها في تغيير المشهد السياسي في العالم العربي وبالتالي تبدل الآراء حوله. إنما ما أقصده هو مسألة التناقض والتلون السريع، فمثلاً كان هناك من يدعم النظام علنا آنذاك دون أن يشير إلى قصوره أو عيوبه أو نواقصه متى ما تبين له ذلك، ثم حينما سقط النظام جاء نفس الشخص ليكيل له الشتائم والسب دون أن يذكر ولو شيئاً من محاسن أو إيجابيات النظام الفائت. هذا النموذج بالتأكيد يعكس موقفاً متناقضاً ومن خلفه دوافع انتهازية وانتفاعية، ولذا صار من العسير جداً أن تجد أحداً من هؤلاء من يتمسك بموقف صادق أو بكلمة حق؛ حيث سرعان ما ينقلب للاتجاه الآخر وبزاوية معاكسة، لتفضح حقيقة هذه الذات المغالية في الانتهازية وبيع الضمير. صفوة القول إن الفساد الثقافي يتم بالعلاج الذاتي، أي يتعين على هؤلاء وغيرهم من المثقفين، أن يكونوا صادقين مع أنفسهم ويتحلوا بالشجاعة الأدبية في إعلان قناعاتهم والتمسك بمبادئهم بغض النظر عن نتائجها ولمصلحة من، لأنهم يحملون رسالة يفترض أن تكون نزيهة وصادقة تبحث عن الصالح العام، إن ارتهنا للحقيقة وهي مؤلمة على أي حال!