رددت كتب الأدب العربي هذا المثل، وأسرفت في إطلاقه على كثير ممن يخلف ظنه رؤيته، ودلالة المثل واضحة: إنها مقارنة بين حسن العمل وسوء المظهر. وقصة المثل توضح ذلك فقد ورد في كتب التراث العربي أن المعيدي فارس شجاع وصاحب أيد بيضاء في مجتمعه، بلغ خبره النعمان بن المنذر أحد ملوك العرب المناذرة. وكان يعترض إبل النعمان ويستولي عليها ويفرقها بين الفقراء من العرب كما يفعل صعاليك العرب كعروة بن الورد والشنفري وغيرهم، ومثلهم كان روبن هود في التراث الغربي. أعجب المنذر بشجاعة المعيدي فأمنه ودعاه لزيارته، فلما قدم المعيدي في قومه لم يعرفه بين وجهاء القوم. قال: أين المعيدي؟ فأشير إليه، وكان أشعت أغبر رث الهيئة، دميم الخلقة، فأكرم وفادتهم، وأسر في نفسه هذا المثل: «تسمع بالمعيدي خير من أن تراه» وأطلقه مثلا سائراً. والأعمال لا تقاس بالأشكال فكم من جميل الشكل سيئ الطباع، وكم من سيئ الشكل حسن العمل. ولقد عرف الحريري ذلك الأديب المبدع صاحب «مقامات الحريري» التي أذهل إبداعها معاصريه ومن جاء من بعدهم. حتى أن رجلا قدم من مكان بعيد إلى الحريري ليأخذ عنه من علمه، وكان الحريري دميم الخلقة في هيئته وشكله، مبهراً في سمعته، فلما أبصره الرجل استزرى خلقته فأدرك الحريري ذلك. ولكن الرجل لم يخلف ظنه هذا المظهر بل أقبل على الحريري يطلب منه أن يمليه شيئا من أدبه، فقال له: اكتب: ما أنت أول سار غره قمر ورائد أعجبته خضرة الدمن فاختر لنفسك غيري إنني رجل مثل المعيدي فاسمع بي ولا ترني وهذه الظاهرة ظلت معلماً في حياة الناس بدوهم وحاضرتهم، فهل الشكل الحسن دافع للمرء أن يؤكد جماله بالعمل الحسن؟ أم الشكل الآخر دافع للمرء لأن يخلف العمل الخلقة؟ فيسعى إلى تجميل شكله بصنائعه؟ أم أن دوافع العمل الحسن سمة تكمن في الوجدان؟ هذا ليس موضوعنا، ولكن ماذا عن المعيدي في الأدب الشعبي؟ النماذج في هذا المجال كثيرة في الأدب الشعبي، فحياة البراري والظروف المحيطة بها تسم أبناءها بانعكاسات القسوة والخوف والتعب والنضال على مظاهرهم وأشكالهم، فلا يجدون راحة تشغلهم بتحسين مظاهرهم، وليس من قيمهم أن يكون المظهر دالاً على أخلاقهم، الذكر الحسن والسمعة الطيبة من أهم أهدافهم لإظهار جمالهم. ذكر الإنسان ينتشر بين البلاد، والذكر للإنسان عمر ثان، وانتشار الذكر الحسن يترك صدى طيبا بأن هذا الجمال ما هو إلا انعكاس لجمال الخلقة، فتتعلق النساء في المجتمع البدوي بأصحاب الذكر الحسن، ويتعطشن لرؤيتهم، على صورة صنعنها لهم، حتى إذا ما التقين بهم لم تمنعهن المفاجأة من صرخة الألم، ولم يستطعن حبس ردود الفعل تلك. هذا ما يحدث عن بعضهن ممن أغراهن الذكر الحسن وصور لهن صاحبه أجمل تصوير. الرجال في المجتمع البدوي لا يعنيهم الشكل، أما النساء فقد ولدن محبات للفرسان الشجعان الذين يضيؤون مجتمعاتهم بصنايعهم. ومن النماذج التي سارت بها الركبان إطراء للشجاعة أو الابداع نورد حادثتين الأولى عن شليويح العطاوي ذلك الفارس الشاعر الذي عرف بالبسالة والمروءة والإيثار والذي يقول: لا قلّت الوزنة وربعي مشافيح أخلّي الوزنه لربعي واشومِ وليا رزقنا الله بذود المصاليح يصير قسمي من خيار القسومِ والوزنة هذه من ثقافة الصحراء، تستخدم عند قسمة الماء بين المسافرين في حالات العطش وقلة الماء، فهم يستخدمون مروة من الحجر الأبيض يضعونها في الإناء لتحقيق المساواة في الشرب إذ كانت أواني الشرب كبيرة، ولتحديد الحصص القليلة من الماء يوضع المرو في الإناء ليشغل الحيز الفائض عن حصة كل شارب، وشليويح يؤثر رفاقه على نفسه وإن كانت به خصاصة مفضلاً رفاقه وهو قائدهم، ويحرم نفسه من الماء إكسير الحياة. وشليويح هذا ليس من الأسر القيادية في القبيلة، التي تتوارث المجد أباً عن جد، ولكنه بنى لنفسه مجداً بشجاعته وإقدامه، وقد وهبه الله حكمة وصبراً وشجاعة بوأته مكانة عالية بين قومه، فذاع صيته في أنحاء الجزيرة العربية، وأحبته النساء رغم زهده فيهن، وانشغاله بقيم مجتمعه وسعيه لتجسيدها، يقول: من فضل ربي ما عشقت الرعابيب ما ادري طبع أو مبعدتني قلاعه خاويت شبانٍ على الفطّر الشيب كم مارد جيته تعاوى سباعه ولكن النساء لم يتركنه، فقد أحبته فتاة لما سمعت عنه من شهرة ذائعة، وما يردد من أشعاره المتسمة بالشجاعة والإقدام والعفة، وعندما سنحت لها الفرصة أن تراه لم تجده غير رجل طبعت رياح السموم آثارها على سحنته فغيرت لونه، وأهزل الغزو جسمه، فلم تقو على كبح جماح ردة فعل المفاجأة لتقول: ليتني لم أرك. لأنه ليس على الصورة التي تخيلته عليها، فأدرك شليويح هذا الانطباع فقال: يا «عيد» دونك شوّشت بي هلالة شافت بوجهي يا عضيدي سهومِ وجهي مسودته لواهيب لاله من كثر ما ننطح لهيب السمومِ يشكو «هلالة» إلى صديقه «عيد» ساخراً من ردة فعلها، وقيل إنه عند ما أدرك انطباعها عنه، واخلاف ظنها به من حيث وسامته قال: يا بنت يا اللي عن احوالي تسالين وجهي غدا حامي السمايم بزينه أسهر طوال الليل وانت تنامين وان طاح عنك غطاك تستلحفينه أنا زهابي بالشهر قيس مِدَّيْن ما يشبعك يا بنت لو تلهمينه مرة نضحِّي والمضحى لنا زين ومرة نشيله بالجواعد عجينة تلكم حياة الحياف الذين يتلمسون أرزاقهم من الغزو، ظاهرة تعرضت لها البلاد فترة من الزمن وتبادلتها القبائل وفق تقاليد فيها من القسوة والرحمة ما فيها. وفي هذه الأبيات يبالغ الشاعر في الرد عليها منعمة في حياتها، وهو يعيش حياة الشظف فلا يزيد طعامه الشهري عن مدين من الحب وهي قد تساوى خمسة كيلو جرامات. ثم يشير في البيت الأخير إلى حياة الخوف والأمن التي يحياها الحائف ممثلا لذلك الأمن بقضاء وقت الضحى في سعادة غامرة مع رفاقه، وقد يفاجأ خوفاً فيضطر لحمل عجينة خبرة في جاعد تجنباً لغزو مفاجئ. صقر النصافي أما القصة الثانية فقد حدثت للشاعر صقر النصافي، وهو شاعر كويتي شهير يمتاز شعره بالجزالة والسلاسة والحكمة وبرز في مجال الرد، وأحبه الشعراء والمتابعون لشعره لترفعه في الرد عن الإساءة، واستناده إلى الحكمة والأقوال المأثورة يقول النصافي: حلفت باللي يرزق الذيب والطير إني فلا اشبع وانت بطنك بجوعِ دنيا تدور ولا تطيع المشاوير تجيب خير وتاخذه بالطلوعِ ما داومت لمكسرين الطوابير أهل الرشوم منزّحين الجموعِ وقد توفى الشاعر في عام 1948م بعد حياة شاقة في الغوص صيفا والتماس الرزق في البر شتاء وله في التعبير عن حرمانه ممن يحب: لا وا هني اللي ليا ضاق له يوم اليوم الاخر خاطره ما يضيقِ ما هو بمثلي ضيقته دايم الدوم أبي المليق شوَىْ وازريت اليقِ على عشير كل حيّه لنا قوم وهو الذي من بدهم هو صديقي وكان للاعجاب بشعره ومواقف انتصاراته في ملاعب الرد أن ذاع صيته وأحبه الناس وبخاصة النساء اللواتي يعجبهن أيضا الانتصار على الخصوم في الحوارات الشعرية، فقد حدث أن دعي إلى حفل وحوار شعري ثم دخل مع المدعوين إلى المائدة وكانت النساء الحاضرات يتطلعن إلى رؤيته من وراء حجاب، فسألت فتاة أمها: أيهم النصافي؟ فأشارت إليه وكان طاعنا في السن، فكان رد الفتاة: «يترب شبابه» رد فعل قاس إذ كانت الفتاة تظنه فتى يملأ أعين المعجبات، وأن إبداعه ينعكس على شخصه رجولة وجمالاً، وهو كذلك من حيث الشخصية إلا أن تقدمه في السن لم يبق على جمال شعره المتجدد بتجدد قرائه. وقد أجاب الفتاة لحظة انطلاق عباراتها نقداً بنقد: يا بنت لا يتربْ شبابي ولا ابيك يترب شباب اللي يحطّك حبيبة عيّا زرار الثوب يا صل علابيك منتفخةٍ كنّك صميل الرويبة وصميل الرويبة هو سقاء اللبن الذي يشحن بالهواء ساعة خضه لعزل الزبدة عن اللبن. ومجتمع النصافي حضري بينما مجتمع العطاوي بدوي ولذا يمكن أن كلا منهما جسد قيم مجتمعه في الرد والتعبير عن معاناته. هذه النصوص الخاصة بالشاعرين من كتاب الموسوعة النبطية الكاملة للشاعر طلال السعيد، الجزء الأول.