بعد التعليق السابق على ما ذكره المحامي المشروح بالجزء الأول من المقال (المنشور أمس تحت عنوان تدريب القضاة على الأنظمة واجراءاتها)، نعود الى شرح الجزء الثاني من المقال وهو موضوع الزام المتهم بجريمة بتوكيل محامٍ.. هذا الجزء من المقال، لم يتطرق اليه المحامي بجريدة الرياض، ولكن كاتب المقال أضافه الى التعليق، لأنه يعتبر مرتبطا بالموضوع ومهماً للقضاة ويستحق أطراف النزاع بالقضايا معرفته، وكذلك القارئ والمواطن. وملخص الموضوع هو: اولا: القضايا بشكل عام من حيث طبيعتها تنقسم الى نوعين: 1- القضايا المدنية وهي غالبا، تتعلق بالمنازعات المالية والتجارية والإدارية وقضايا الأحوال الشخصية وغيرها، وتكون المنازعة بين المواطنين ويمثل المواطن نفسه امام القضاء او يوكل محامياً، وأحيانا تكون الدولة طرفا فيها خاصة القضايا الإدارية ويمثلها المدعي العام. 2- القضايا الجنائية وتتعلق بانواع الجريمة، سواء وقعت ضد المواطنين او ضد الدولة، ويمثل الدولة المدعي العام، ويمثل المتهم نفسة أصالة او نيابة. ثانيا: موضوع بحثنا بالجزء الثاني هو، كما سبق ذكره، الزام المتهم بجريمة ان يوكل محاميا، وهذا يطرح الأسئلة التالية: 1- هل يسمح للمتهم بقضية جنائية ان يدافع عن نفسه امام القضاء، ام يجب الزامه بتوكيل محامٍ متخصص يقوم بالمهمة نيابة عنه؟ 2- إذا كان المتهم لا يستطيع توكيل محامٍ، لأي سبب من الأسباب، او لا يرغب في ذلك، فما العمل؟ انقسمت الدول وعلماء القانون حول الموضوع الى قسمين رئيسين هما: القسم الاول: يرى أنه يجوز للمتهم بقضية جنائية ان يقوم بالدفاع عن نفسه امام القضاء، لأن الاستعانة بمحامٍ تعتبر حرية فردية وحقا له، ان شاء استعمله وان شاء تركه، تمشيا مع القاعدة التي تقول: المرء لا يجبر على ممارسة حقه. القسم الثاني: يرى انه يجب ان يلزم المتهم بقضية جنائية بتوكيل محام يدافع عنه، واذا كان عاجزا عن الاختيار او رافضا له، تعين المحكمة بمعرفتها، محاميا يقوم بالمهمة. (في بعض الدول يتم الاختيار بمعرفة نقابة المحامين). كاتب هذا المقال يؤيد رأي القسم الثاني وذلك لأسباب كثيرة، سوف يشرحها بعد ذكر بعض الدساتير والقوانين والأنظمة التي تمثل وجهة نظر كل من القسمين وذلك على النحو التالي: اولا: بعض الدساتير والقوانين التي تؤيد القسم الثاني وهو الإلزام: 1- الدستور المصري لعامي 1923 و1971، الذي بني أصل كثير من مواده على الدساتير الفرنسية القديمة، يلزم المتهم بقضية جنائية الاستعانة بمحامٍ بحيث لا يسمح له بالدفاع عن نفسه امام القضاء. 2- دساتير وقوانين كل من مملكة البحرين ودولة الكويت، لكونهما وليدي الدستور المصري، تطبق قاعدة الإلزام بالاستعانة بمحامٍ، كما وصفت بالفقرة السابقة. 3- بالولاياتالمتحدةالأمريكية، دساتير كافة الولايات تشترط وجود محام مع المتهم اثناء التحقيق معه وأثناء المحاكمة. وكما سبق ذكره، في جميع هذه الدول، اذا كان المتهم عاجزا عن الاختيار او رافضا له، تعين المحكمة محاميا يقوم بالمهمة بمعرفتها او بمعرفة النقابة. ثانيا: الأنظمة التي تؤيد رأي القسم الاول، وهو تفضيل حرية الاختيار: قواعد وأنظمة المرافعات المدنية والجزائية (الجنائية) بالمملكة العربية السعودية تختلف عن دساتير بعض الدول، كما لخصت في (اولا)، وذلك من جانبين هما: 1- في القضايا المدنية لا تتدخل المحكمة في موضوع التمثيل، ما عدا التأكد من صحة وكالة الوكيل، ان وجد. 2- في القضايا الجزائية (الجنائية) تعتبر الاستعانة بمحامٍ حقاً للمتهم، ان شاء استعمله وان شاء تركه، ولذلك لا يلزم بمحامٍ، ويسمح له بالدفاع عن نفسه امام القضاء. وتطبيق قواعد وإجراءات المرافعات الجزائية بالمملكة مر بمرحلتين هما: المرحلة الأولى: الإجراءات امام ديوان المظالم: قواعد وإجراءات المرافعات الجزائية، بشقيها التأديبي والجنائي، الصادرة بقرار مجلس الوزراء رقم 190 في 16/11/1409 والتي ينظرها ديوان المظالم ويمثل الإدعاء العام فيها هيئة الرقابة والتحقيق بموجب نظامها الصادر بالمرسوم الملكي رقم: م/7 وتاريخ: 1/2/1391 تنص على: يحضر المتهم جلسات المحاكمة (سواء بالقضايا التأديبية او الجزائية) بنفسه ويبدي دفاعه كتابة او مشافهة، وله ان يستعين بمحام. والاستعانة، بالطبع، لا تعني التمثيل او المدافعة نيابة عن المتهم، وإنما تعني الاستشارة وتوضيح ما قد يشكل فهمه على المتهم من عبارات ونصوص نظامية. المرحلة الثانية: الإجراءات امام المحكمة الجزائية: في عام 28/7/1422 تم نقل القضايا الجنائية من الديوان الى المحكمة الجزائية الشرعية التي شكلت بموجب نظام القضاء الصادر بالمرسوم الملكي رقم (م/78) في 19/9/1428 وحددت اختصاصاتها في نظام الإجراءات الجزائية الصادر بالمرسوم الملكي رقم (م/39) وتاريخ 28/7/1422 ويمثل الإدعاء فيها هيئة التحقيق والادعاء العام بموجب نظامها الصادر بالمرسوم الملكي رقم (م/56) وتاريخ 24/10/1409ه. وهذا النقل، لم يغير وصف حق المتهم بالتمثيل، حيث نصت المادة (4) من نظام الإجراءات على: يحق لكل متهم أن يستعين بوكيلٍ أو محامٍ، للدفاع عنه في مرحلتي التحقيق والمحاكمة. يضاف الى ما سبق ذكره، ما ورد بنظام المحاماة الصادر بالمرسوم الملكي رقم (م/38) وتاريخ 28/7/1422، حيث نصت المادة (140) منه على: يجب على المتهم في الجرائم الكبيرة أن يحضر بنفسه أمام المحكمة مع عدم الإخلال بحقه في الاستعانة بمن يدافع عنه. (وكلمة الاستعانة سبق شرحها). كاتب هذا المقال، كما سبقت الإشارة، يرى ان طرف الدعوى المدنية، سواء كان مدعيا او مدعىً عليه، وسواء كان محاميا أو من عامة الناس، مع انه لا يلزم بتوكيل محام، لكن قد يكون من مصلحته ان يختار محاميا قديرا للدفاع عنه، تمشيا مع القول المأثور: الطبيب لا يعالج نفسه. اما في القضايا الجنائية، فيرى كاتب المقال وجوب إلزام المتهم بتوكيل محامٍ متخصص للدفاع عنه، لأنه حتى لو كان المتهم محاميا، فقد يكون غير متخصص بالقضايا الجنائية، واذا كان متخصصا فقد لا يتوفر له الوقت لجمع الأدلة والبينات وتنسيقها وتحليلها واختيار اسلم الطرق لعرضها على القضاء، وذلك لأسباب كثيرة من ضمنها احتمال كونه مسجونا أو موقوفا أو غير قادر على جمع الأدلة. هذه الصفات والوقائع المحتمل حصولها لمن يتولى الدفاع عن نفسه امام القضاء، قد تضمن فشل دفاعه، وربما تضمن ايضا حصول الإساءة الى سمعة القضاء والى سلامة إجراءات المرافعات. والمقصود بالمحامي المتخصص، هو الذي يعرف القواعد القانونية واصول المرافعات الجنائية المتعلقة بموضوع الدعوى، ويعرف كيف يجمع الأدلة والبينات ويقوم بتنسيقها (ترتيبها حسب تاريخها وما تشير اليه من وقائع) وتحليلها (دراسة القواعد والحيثيات والأسباب والسوابق المتعلقة بالقضية) واختيار زمن عرضها على القضاء، بالإضافة الى مقدرته على حسن التعبير عن قضيته وذلك باتباع الأساليب القانونية التي منها: 1- وسائل الإقناع ويدخل من ضمنها حسن عرض الأدلة والبينات، التي قد تكون ملموسة وقطعية الدلالة وقد تكون عرضية وظنية الدلالة). 2- حسن اختيار العبارات والجمل القانونية والشرعية المفهومة، لأن المحامي المتخصص يجمع بين الفكر القانوني والشرعي وحسن التعبير عن فكره. ولنضرب أمثلة مختصرة على ما ذكر من فشل دفاع المتهم عن نفسه امام القضاء، هذه الأمثلة موجود منها نماذج بالإجراءات القانونية الأمريكية التي تذبذبت بين الأخذ بمبدأ الإلزام ومبدأ الخيار لفترات طويلة من تاريخها، كما يظهر من الوقائع التالية: 1- في بداية تاريخ الولاياتالمتحدة، كانت مهنة المحاماة غير معروفة وكان الاعتقاد السائد حينذاك ان الانسان نفسه قادر على الدفاع عن حقوقه امام المحاكم، لكن سرعان ما اكتشف قضاة المحاكم ان القضايا التي تعرض عليهم غامضة ومعقدة، وان الاشخاص الذين يحضرون امامها بسبب، جهلهم وقلة خبرتهم، غير قادرين على توضيح قضاياهم، الامر الذي جعل تلك المحاكم تفوض بعض المتخصصين بالعلوم السياسية والقانون بالحضور والترافع امامها نيابة عن اصحاب القضايا، وذلك، كما رأى القضاة في حينه، خدمة للعدالة وحفاظا على سمعة القضاء وتوفيرا لوقت وجهد المحاكم. 2- استمرت المحاكم الأمريكية تلزم المتهم بقضية جنائية باختيار محاميه واذا عجز أو رفض، عينت المحكمة محاميا يقوم بالمهمة نيابة عنه بمعرفتها، لكن بسبب إعادة تفسير المواد العشر من تعديلات الدستور الفدرالي المتعلقة بالحقوق المدنية للفرد الأمريكي) Bill of Right & Civil Liberties) تغيرت النظرة، ففي منتصف القرن (18) تقريبا حصلت بعض القضايا والوقائع التي جعلت من حق المتهم ان يدافع عن نفسه امام القضاء، اي لا يلزم باختيار محامٍ، من ضمن هذه الوقائع ما يلي: أ- في عام 1895 قبلت محكمة في ولاية (فلاديلفيا) ان يتولى متهم بجريمة قتل الدفاع عن نفسه امامها. ب- في عام 1975 قبلت محكمة في ولاية (كلفورنيا) ان يتولى متهم بالسرقة الدفاع عن نفسه امامها. ج- في عام 1978 قبلت محكمة في ولاية (فلوريدا) ان يتولى متهم بالاغتصاب والقتل، الدفاع عن نفسه امامها. د- في عام 1986 قبلت محكمة في ولاية (نيويورك) ان يتولى احد رؤساء المافيا الدفاع عن نفسه امامها، ولكن بحضور محامٍ الى جانبه دون ان يتدخل المحامي بمرافعة الدفاع وتقديم الأدلة. والنتيجة النهائية أنه في كل القضايا السابق ذكرها، حكم على المتهم بالإدانة والعقوبة المشددة، إما بالسجن المؤبد أو بالإعدام. ومثل هذه النتيجة تعتبر من ضمن الأسباب التي جعلت كاتب المقال يميل الى الزام المتهم، بان يوكل محامياً ينوب عنه بالمدافعة والمرافعة، او ان تعين المحكمة او نقابة المحامين من يقوم بالمهمة نيابة عنه، وذلك من اجل سلامة الإجراءات، وتحقيق العدالة، وتوفير وقت المحكمة، وحفظ سمعة القضاء امام الخاص والعام. وبالإضافة الى ما سبق من الأسباب التي دعت الى وجوب إلزام المتهم بان يوكل محامياً متخصصاً يقوم بالمرافعة والمدافعة نيابة عنه، يوجد اسباب أخرى مهمة منها ما يلي: 1- ان مهمة المدعي العام هي جمع الأدلة القطعية والظرفية لأثبات التهمة، أي ليس من واجبه المهني تقديم أدلة النفي لإثبات براءة المتهم. 2- ان عبء تقديم أدلة النفي وبينات البراءة تقع على عاتق المتهم، ولأن المتهم قد يكون من عامة الشعب الذين لا يملكون المعرفة القانونية والشرعية ولا الوسائل لجمع البينات ومناقشة الشهود ولا حسن عرضها على القضاة، مما يوجب وجود محامٍ يقوم بالمهمة نيابة عنه. 3- القواعد النظامية المعتبرة والأصول الشرعية الثابتة توجب على القاضي ان يتقيد بالأمور التالية: أ- أن يؤسس حكمه على مواد النظام ولوائحه وإجراءاته التي تحكم القضية المعروضة، وان يتجنب اللجوء الى الاجتهاد مع وجود النص. ب- ان يصدر حكمه بناء على ما يقدم له من بينات وادلة أثناء المرافعة، وعلى ما سمع في مجلس الحكم من اقوال وشهادات حفظت في ضبط المحكمة. أي ليس بناء على علمه خارج مجلس الحكم. وهذا ما نص عليه حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يقول: إنما انا بشر - وإنكم لتختصمون إلي وعسى ان يكون بعضكم ألحن بحجته من الآخر فاقضي له على نحو ما اسمع. ج- ألا يكون محامياً عن المتهم ولا عن المدعي حتى لو كان المدعي جهة رسمية. نختم هذا المقال بملاحظة: هي ان المحامي، بالإضافة الى واجبه الخاص بالدفاع عن المتهم بكل جد وإخلاص بعيدا عن المماطلة والمماحكة، فان من مهامه ايضا ان يساعد القاضي على إصدار حكم ملائم للمعطيات والإجراءات والقواعد والأصول، وذلك عن طريق توفير المعلومات والأدلة والبينات الصحيحة عن القضية وتقديمها للقاضي.