"سيناريو" متكرر تشهده مرافق المحاكم ممثلاً في إنكار المتهم لأقواله أثناء التصديق عليها شرعاً؛ بسبب شعوره أنه وقع تحت طائلة التخويف، أو بسبب نصيحة من وسيط -محامٍ أو صديق-، أو من أجل البحث عن مخرج وتوسيع دائرة الاتهام لتشمل متهمين آخرين، مما يجعل القاضي يعيد المتهم إلى مجريات التحقيق من جديدٍ. وشدّد مختصون على ضرورة توضيح حقوق المتهم وواجباته من اللحظة الأولى للقبض عليه، حتى لا يدخل في "دوامة" الاعترافات المتضاربة. ويبقى من المهم أن يكون لدى الجهات المختصة محامون للدفاع عن المتهمين تتولى دفع أجورهم، وتوليهم القضايا منذ بدايتها، وهو ما يُشعر المُتهم بالأمان سواء من جانبه أو من جهات التحقيق، وبذلك نضمن حضوره إلى المحكمة مقتنعاً إلى حد ما بأقواله، وهو ما يقود في النهاية إلى تلاشي الكثير من تراجع الاعترافات، حيث ان أغلب المتهمين غالباً لا يعلم ماهية تهمته إلاّ في ختام التحقيقات، بل ولا يعلم عن أسباب القبض عليه، ولا يعلم لماذا هو في ذلك الموقف، وعندها تكون اجاباته متضاربة وينتقل هذا التضارب إلى التحقيق، كما أنه من المُهم إعطاء جرعات ثقافة حقوقية مركزة إلى جميع ضباط الأمن وأفراده في الدوريات والقبض والعاملين في مراكز الشرطة، الذين يتولون التحقيقات الأولية عند القبض، أو عند تلقي الشكاوى. تناقض الأقوال وقال "عقل الباهلي" -كاتب وقانوني-: إن أسباب كثيرة تدفع المتهم إلى تغيير أقواله أمام المحكمة، في ظل النقص الواضح في حقوقه، التي من أهمها أن يكون لديه محامٍ خاص يمثل معه في التحقيق، ليرشده ويدافع عنه، وهذا حق منصوص عليه في النظام، مضيفاً أنه حان الوقت لأن يكون لدى الجهات المختصة محامون للدفاع عن المتهمين تتولى دفع أجورهم، خاصةً اذا كان المتهم يعاني ظروفاً مالية، ولا يستطيع توكيل محام، مبيناً أنه فيما يتعلق بموضوع الإنكار فهناك من يعطى وعوداً أن عليه أن يعترف ثم يتعهدوا له قولاً لا عملاً أنهم سيطلقون سراحه، ليكتشف فيما بعد أن هذا الإجراء غير صحيح، بعد أن يكون قد وقع على اعترافات لم يكن مقتنعا بها، مشيراً إلى أن المتهم عادةً في القضايا الجنائية والأخلاقية وفي الكثير من القضايا يود الخلاص من التحقيقات ليصادق عليها المحققون. وأضاف أن أحد أهم الأسباب التي تدفع بالمتهم للتراجع عن أقواله أن الاعترافات أُخذت بطرق لا تتوافق مع الإجراءات الجزائية كاستخدام العنف أو الإجبار أو التهديد، مضيفاً أنه وخلال حضوره لقاء مع الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان لمناقشة تصديق أقوال المتهمين شرعاً رأوا أن هذا الأمر يتعرض للانتهاك والتجاوزات، متسائلاً: "لماذا يذهب المتهم بعد التحقيقات لتصديق أقواله في المحكمة؟"، مؤكداً على أن المشكلة التي تحدث خاصةً في القضايا الأمنية أن يحضر المتهم بعد تسجيله لاعترافاته في هيئة الادعاء والتحقيق لتسجيل أقواله، ثم ينفي ذلك أمام القاضي؛ لأنها لا تتوافق مع الحقيقة، وأنه أُجبر على الاعتراف للنجاة بنفسه، وذلك لشعوره أن حياته في خطر، وعندها يعيده القاضي إلى الجهة التي حققت معه، وهذا يعني عودته إلى المصاعب التي جاء منها. وأشار إلى أن الكثير من الإجراءات خلال التحقيق يتم التساهل فيها، على الرغم من أن الأحكام الصادرة تلعب دوراً في رسم سياسة هذا المتهم، خاصةً إذا كان شابا، فأحياناً خطأ إجرائي خلال التحقيقات قد يدمر حياته للأبد، مُشدداً على أهمية الحفاظ على امكانية المتهم خلال التحقيقات، وأن يكون بكامل حريته، وأن يحضر معه محام ليشعر بالأمان سواء من جانبه أو من الجهات ذات العلاقة بالتحقيق، حتى نضمن أن حضوره للمحكمة مقتنعاً إلى حد ما بأقواله، مبيناً أنه بذلك ستتلاشى الكثير من تراجع الاعترافات، مشيراً إلى أنه من المهم حث وزارة العدل المحامين للدفاع عن المتهمين في القضايا الأخلاقية، وذلك بسبب رفض الكثير منهم مثل هذا النوع من القضايا، فالمتهم إنسان قبل كل شيء ويستحق الدفاع عنه. الإكراه المعنوي وقال "د.ماجد قاروب" -محام - إن عملية القبض والإحالة للتحقيق تتم بصورة عشوائية وغير مرضية لنا كمجتمع حقوقي؛ لأنها تتم بارتجالية وبدون إعداد مهني، وفي معظم الحالات لا تتفق مع قواعد العدل والإنصاف، وتخالف الغرض الأساسي الذي وضعت لأجله، ناصحاً بتمكين المتهم بمحام من اللحظة الأولى للقبض عليه، وذلك لأن المتهم غالباً لا يعلم ماهية تهمته إلاّ في ختام التحقيقات، بل ولا يعلم عن أسباب القبض عليه، ولا يعلم لماذا هو في ذلك الموقف، وعندها تكون اجاباته متضاربة وينتقل هذا التضارب إلى التحقيق، حيث يبدأ المحقق بالتحقيق، ويكون ما أدلى به المتهم من إفادة أو تقديم شهادة ليست دقيقة للتهمة التي يجهل حقيقتها حتى تنتهي التحقيقات، مشيراً إلى أن القضاء يرى بحسه القضائي، خاصةً في القضايا الجنائية عدم تناسب الأقوال مع التهمة وإجراءات التحقيق، وفي حالات كثيرة يوجه القضاة الى إعادة التحقيق، إستجابةً إلى طلب المتهم الذي قد تعرض الى الأذى والضغط النفسي، وهو ما يعرف بالإكراه المعنوي. وأضاف أن الأصل ألاّ يغيّر المتهم أقواله، لكن هذا الأصل يلزمه أصلا آخر مفقود، وهو عدم اخطاره بتهمته، وفي حالات محدودة يُلقِّن المحقق المتهم أقوالاً معتقداً أنه يساعده، وهذا مخالف لقواعد العدالة والقانون، مضيفاً أن المحقق يجب ألاّ يعبّر عن وجهة نظره أثناء التحقيقات؛ لأن كل ما يوصي به هو من أجل تعزيز أقوال تؤكد قناعته بمحقق تجاه القضية، وليس بالضرورة قناعة المتهم ورغبته الحقيقية، بل ربما قد تخالف أصلاً الحقيقة، مطالباً بإعطاء جرعات ثقافة حقوقية مركزة الى جميع ضباط الأمن وأفراده في الدوريات والقبض والعاملين في مراكز الشرطة، الذين يتولون التحقيقات الأولية عند القبض، أو عند تلقي الشكاوى، وكذلك زيادة عدد أعضاء هيئة التحقيق والادعاء العام إلى الضعف، وفي بعض المدن الكبيرة أن يكون إلى ثلاثة أضعاف الرقم الحالي، حتى تتم عملية القبض والتحقيق وفق اجراء نظام الإجراءات الجزائية. حقوق المتهم وقال "ياسين خياط" -رئيس لجنة المحامين في غرفة جدة-: إن المصادقة على أقوال المتهم تُعد إحدى الخطوات المهمة التي تجريها جهات التحقيق التي تتم أمام القضاء، وفي هذا الأمر ضمانة كبيرة للمتهمين، مضيفاً أنه من حق المتهم الاعتراض أمام القضاء قبل المصادقة على اعترافاته، مع إبدائه أي ملاحظة أو عدم قبول أمام القاضي على الأقوال، مبيناً أن المصادقة تُعد بمثابة إقرار لصحة ما جاء في أقواله، وهذه واحدة من الخطوات المهمة التي ينغلق فيها أبواب النقاش فيما يتعلق بتغير الأقوال التي قد تغيّر مجرى القضية كاملاً، مشيراً إلى أن الكثير من المتهمين يجهلون حقوقهم في هذا الجانب، فالنظام يسمح لهم بالاعتراض وإضافة وإنكار ما يرونه مناسبا، لكن الكثير منهم يساق الى المحكمة ويصادق وهو لم يمارس حقه الذي كفله له النظام، ذاكراً أن تغير أقوال المتهم قد لا يكون من مصلحته، لأن القاضي يتعامل مع الواقع والمستندات، ويستخدم فراسته، وعندما يكتشف كذب المتهم وتعذره بأعذار واهية في ظل وجود أدلة قوية تؤكد ارتكابه للجريمة يضعف موقفه ويتعقد أكثر. محاضر أولية وأشار "خالد الشهراني" -قانوني- إلى أن المتهم قد يرى في تغيير الأقوال مخرجاً لإسقاط التهم الموجهة له، لا سيما في حال اشتملت أعمال القبض والتحقيق على انتزاع اعترافات بالاكراه المادي أو المعنوي، يدعي المتهم وقوعها عليه ابتداء وهو الأسلوب الذي يلجأ إليه المتهمون أمام المحاكم في قضايا جنائية، مضيفاً أن المعمول به حالياً أمام المحاكم هو أن القضاة يأخذون بما يدلي به المتهم في المجلس القضائي، أو ما اعترف به شرعاً أمامهم، أو ما يسمى بتصديق الاعترافات شرعاً أمام المحكمة، مؤكداً على أن ما يُقدم إلى المحاكم من محاضر القبض والتحقيق هي محاضر أولية وغير معتبرة شرعاً، لافتاً إلى أنه يتم مناقشة المتهم بما ورد فيها، ويمكنه الدفاع عن نفسه وتقديم البيّنات، ويطبق بشأنها (البيّنة على المدعي واليمين على من أنكر) وفقاً لنص المادة (163) من نظام الإجراءات الجزائية. وأضاف أنه إذا أنكر المتهم التهمة المنسوبة إليه، أو امتنع عن الإجابة، فعلى المحكمة أن تشرع في النظر في الأدلة المقدمة وتجري ما تراه لازماً بشأنها، وأن تستجوب المتهم تفصيلاً بشأن تلك الأدلة وما تضمنته الدعوى، ولكل من طرفي الدعوى مناقشة شهود الطرف الآخر وأدلته، حيث ان تلك المحاضر لا ترتقي لتكون دليلاً قطعياً إلا حال الاعتراف بما ورد فيها أمام القاضي، فإن أنكرها المتهم فلا اعتبار لها، إذ الأصل هو بما يرد على لسان المتهم في المجلس القضائي، مؤكدا على أن الأصل ان تكون محاضر التحقيق والقبض مطابقه للواقع تماماً، حيث ان الأصل هو أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته. وأشار إلى أنه في مرحلة القبض غالباً لا يمكن المتهم من الاستعانة بوكيل أو محام خلالها، إذ أن ذلك لا يكون إلاّ في مرحلة التحقيق والمحاكمة، وفقاً لنص المادة الرابعة من نظام الإجراءات الجزائية: "يحق لكل متهم أن يستعين بوكيل أو محامٍ للدفاع عنه في مرحلتي التحقيق والمحاكمة، ويعتبر المحامي مراقباً على الاجراءات التي تتم بحيث يبدي ملاحظاتة على سير التحقيقات"، مبيناً أنه نظراً لضعف الثقافة الحقوقية عامةً بالمجتمع يأتي دور المحامي متأخراً جداًّ، وذلك في مرحلة المحاكمة، متجاوزاً مراحل القبض والتحقيق، وفي مرحلة المحاكمة نجد أن المحكمة تتحرى عن صحة أقوال المتهم حال انكاره لها، وكونها صدرت عن إرادة واختيار، مؤكداً على أن دور القاضي هو التحري بكل عناية ودقة، وأن لا يدان المتهم إلاّ بموجب أدلة واثباتات قطعية تحقيقاً لمبدأ العدالة التي أمر بها ديننا الاسلامي. د.ماجد قاروب عقل الباهلي ياسين خياط خالد الشهراني