يبقى التحضر أحد أقوى العناصر السكانية حول العالم، مما يؤدي إلى نشوء مدن بأحجام وتعقيدات غير مسبوقة. وبحسب الأممالمتحدة، يعيش أكثر من نصف سكان العالم حالياً في المناطق الحضرية – تم اجتياز سقف الخمسين في المئة للمرة الأولى في عام 2008. وتشير التقديرات إلى ارتفاع هذه النسبة إلى قرابة 70% بحلول عام 2050، ورغم أن العديد من المدن الأسرع نمواً هي في أسواق ناشئة، تواجه البلدان المتطورة مجموعة من المشكلات ذات الصلة بسبب التوسع العمراني، وتشر الدراسات إلى أنه في إمكان التكنولوجيا مساعدة صانعي السياسات في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا على معالجة هذه المشكلات من خلال إنشاء المدن الرقمية التي تستخدم بنى تحتية وحلولاً متقدمة لتوفير الخدمات التي تسمح بمواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية للتحضر، جاء ذلك في دراسة أجرتها بوز أند كومباني الشركة المتخصصة في الاستشارات الإدارية. وتعطي التكنولوجيا الرقمية صانعي السياسات الأدوات التي تمكنهم من مواجهة تحديات التحضر، وقال أولاف إيكر، الشريك في بوز أند كومباني، إنّ "الخطوة التالية تقضي بتطبيق الرقمنة مباشرة في التخطيط الحضري، وذلك بهدف إنشاء مدن رقمية، أو منظومات ذكية ذات قدرة أكبر على مواجهة تحدّيات النمو والتوسع، وعلى النقيض من المدن التقليدية، والتي أُنشئت بشكل عشوائي، يتم تصميم المدن الرقمية على أساس إطار متعدد المستوى لتقنية المعلومات والاتصالات ضمن بنية تحتية متكاملة، مما يجعلها أقدر على تقديم الخدمات المتكاملة ذات القيمة المضافة على غرار الصحة الإلكترونية والحكومة الإلكترونية والنقل الإلكتروني وغيرها". وهناك منافع رئيسية من المدن الرقمية وهي تحفيز التنمية الاقتصادية من خلال زيادة حجم الاقتصاد واستحداث فرص العمل في قطاعات تكنولوجية واعدة، وتحسين نوعية الحياة حيث تحسّن المدن الرقمية حياة المواطنين بالعديد من الطرق، عبر توفير الأرضيات المناسبة لهم للوصول الصحيح إلى مجموعة من الخدمات، والاستدامة البيئية حيث تطبّق المدن الرقمية التكنولوجيا للحدّ من هدر الموارد على غرار المياه والكهرباء. وتُعد مبادرة "مدينة دبي الذكية" أحد الأمثلة الواعدة على ذلك، حيث تهدف الخطة الخمسية إلى تحويل الإمارة باستخدام التكنولوجيا الرقمية، مما يُمكّنها من تقديم مجموعة من الخدمات الحكومية عبر الإنترنت للمواطنين والشركات المحلية والجهات الحكومية، وبالإضافة إلى منافع جودة الحياة، وسيضيف المشروع 5.5 مليار دولار أميركي إلى الناتج المحلي الإجمالي لإمارة دبي، فضلاً عن استحداث 27.000 فرصة عمل. وللتحول إلى المدن الرقمية، سوف تحتاج الحكومات في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا إلى مجموعة مناسبة من الحلول التي ستساعدها على الانتقال إلى المرحلة التالية من نضوج قطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات. فعلى سبيل المثال، تجعل مدينتا لوسيل في قطر ومصدر في الإمارات من التكنولوجيا والشبكات والتطبيقات الرقمية جزءاً أساسياً من طريقة عملها وتفاعلها مع المواطنين. وعلى النقيض من ذلك، تواجه المناطق الحضرية الحالية أو الجديدة تحديات واضحة في الارتقاء في سلم نضوج تكنولوجيا المعلومات والاتصالات نظراً إلى ضرورة تحديث بنيتها التحتية الحالية بأجهزة استشعار وأنظمة مراقبة مدمجة وتأهيل المباني القديمة، وهي عملية معقدة ومكلفة. وبهدف جعل المدن الرقمية حقيقة قائمة على الأرض، يتعين على الحكومات المحلية أولاً معالجة الأوجه الأساسية للتخطيط الحضري مع أصحاب العلاقة والشركاء الرئيسيين، على غرار المطوّرين العقاريين ومقدّمي التكنولوجيا. ويتعين على الحكومات المحلية اختيار خدمات محددة لتوفيرها وتصنيفها تبعاً لأولويتها، وتقييم البنى التحتية للمدن بعناية، وتحديد مسار يسمح لها بالارتقاء صعوداً بالنسبة إلى نضوج تكنولوجيا المعلومات والاتصالات. وعند وضع خطة التنفيذ، يتعين على الحكومات المحلية إيجاد شركاء يتمتعون بالقدرات والرغبة قادرين على إدارة تفاعلات متعددة المستوى مع مجموعة واسعة من أصحاب العلاقة، بمن فيهم المديرين على مستوى المدن والبلديات، وصانعي السياسات والجهات المنظمة ومقدمي خدمات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والشاغلين والمتعاقدين. لذلك يتعين على الحكومات المحلية العمل مع الشركاء لإيجاد نموذج عمل مناسب يضمن الاستمرارية التجارية في تقديم خدمات المدن الذكية وتشغيلها. ورغم إمكان اختلاف نماذج العمل بحسب ملكية الأصول، فإنّ النموذج المشترك هو الذي تتعاقد فيه المدن مع مطورين رئيسيين يتعاقدون بدورهم مع موردي خدمات خارجيين على غرار فاعلي تكنولوجيا المعلومات والاتصالات أو مشغلي الاتصالات القادرين. ويجب أن يكون الموردون الخارجيون قادرين على توفير تكنولوجيا معلومات واتصالات ذكية، وإدارة البنى التحتية للترفيه والاتصالات، والتفاعل المباشر مع الشاغلين للإشراف على الخدمات وتحصيل الإيرادات. ولن تحقق الخدمات الرقمية منافعها المنشودة من دون تجاوب واسع النطاق من المواطنين والمنظمات حيث أنّه لتحريك الالتزام، خصوصاً في تقديم الخدمات الإلكترونية، يمكن أن تتعلم المدن من كيفية نجاح مصممي الألعاب الذين اعتمدوا طريقة الألعاب للوصول إلى الحلول Gamification للالتزام مع مستخدميهم من مختلف المجموعات العمرية والتركيبات السكانية والخلفيات. وبعبارات بسيطة، يقضي مبدأ Gamification بتطبيق مبادئ تصميم الألعاب على بيئات العالم الفعلي، أي تقديم حسّ بالإنجاز وتطبيق الإقرار بالوضعية وتحفيز المنافسة البنّاءة. وتعتبر قيمة المدن الرقمية واضحة، ويتعين على المدن تحديد مساراتها لبلوغ هدفها بحسب احتياجاتها والمستوى الحالي لنضوج تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وتعتبر التحولات الرقمية طويلة ومعقدة ومكلفة، ونظراً إلى العوائق السياسية أو الاقتصادية التي لا مفر من ظهورها، سوف تتطلب عملية التحول من قادة المدينة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ضمان اتفاق جميع أصحاب العلاقة على الأهداف الصحيحة وجهود التطوير المناسبة، وسوف يضع التزام من هذا القبيل لأصحاب العلاقة، مع التخطيط الطويل الأمد والتزام القيادة، المدن على مسار التحوّل الرقمي.