الشعر بيّن، والنثر بيّن، وبينهما أمور مشتبهات. كم أحب هذه الامور المشتبهات ما بين الشعر والنثر. وأتمنى لو جرت كل عباراتي وكلماتي في ذلك المضمار المشتبه، ولا أقول الحائر، ما بين الشعر والنثر. يقول أبو حيان التوحيدي في كتابه الذي أحب "المقابسات": "في النثر ظلّ النظم، ولولا ذلك ما خفّ ولا حلا ولا طاب ولا تحلاّ، وفي النظم ظلّ من النثر، ولولا ذلك ما تميزت أشكاله، ولا عذبت موارده ومصادره، ولا بحوره وطرائقه، ولا ائتلفت وصائله وعلائقه". وقد وجدت في مقابسة التوحيدي حلا شخصيا لمشكلة كانت تواجهني كلما وجدت من يسألني عن معنى الشعر وعن معنى النثر، وما الفرق بينهما.. وخصوصاً ان كان السؤال في سياق اتهام قصيدة النثر تحديداً بأنها ليست شعراً. أنه الظل إذن، ظل الكلمة في سياقها الشعري أو النثري، الذي يضفي عليها رونقها ويمنحها ما يشبه التعريف لتنتظم في القصيدة أو ما لا يمكن أن يكون القصيدة. فللكلمات العربية ظلال تستعصي على المعاجم والقواميس غالباً، فلا يستسيغها أصحاب المعاجم والقواميس لأنهم لا يستطيعون التعامل معها وفقا لمقاييس عملهم المحدد. في مثل هذا الوقت، الذي يحتفل فيه العالم بيوم الشعر، أواجه السؤال نفسه تقريباً في تحقيقات صحفية احتفائية بالمناسبة: "ما هو الشعر؟ أو؛ من هو الشاعر؟، وتكرر إجابتي القابعة في الظلال تقريباً، وإن بكلمات مختلفة. هنا واحدة من هذه الإجابات السابقة: الشعر، بغض النظر عن تعريفاته المستحيلة وتوصيفاته التي لا يمكن رسم حدود واضحة لها، ما هو إلا دهشة. مجرد دهشة تصل بالشاعر إلى حد البكاء دائماً، وإلى حد الضحك دائماً، ليس بوصف البكاء تعبيراً عن حزن عميق، ولا بوصف الضحك تعبيراً عن فرح غامر، ولكن بوصف الممارستين تعبيرا إنسانيا راقياً عن دهشة ما تجاه شيء ما في هذا الكون اللا متناهي في تكوينه المتراكم. دهشة متسائلة، مأخوذة وآخذة في نفس الوقت. وما الشعر إلا قبض عفوي وذكي على لحظة الدهشة الملتبسة تلك. أما نار الشعر المقدسة فانها تلك البعيدة إلى حد التماس مع الروح والقريبة إلى حد التماهي مع الحقيقة الأخيرة وعلى مدى الخطى الفاصلة بين الحدين تغوينا شهوة الشعر وتغرينا لذته المستحيلة. فهل تموت الدهشة المأخوذة الآخذة؟ هل تموت الشهوة المستحيلة؟ هل يموت الشعر؟ لا إنه متعب فقط! واذا كان الشاعر الداغستاني الكبير رسول حمزاتوف يرى أن المرء يتيم لولا الشعر فأنا أرى أن العالم بأكمله سيصبح كائنا يتيما لولا الشعر". حسناً.. ما زال السؤال يتكرر كل عام بهذا المناسبة وبغيرها، وما زالت إجابتي هي نفسها حتى وإن حاولت تغيير نسقها اللغوي أحيانا. يقول محمود درويش: "أحبّ من الشعر عفوية النثر والصورة الخافية، بلا قمر للبلاغة". وهذه عبارة أزعم أن كل الشعراء يتبنونها وهم يتبنون القصيدة، بكل صورها، حتى وإن لم يعترفوا بذلك؛ عفوية النثر والصورة الخافية، في الحادي والعشرين من مارس، أو قبل أو بعده: كل عام والقصيدة هي الدهشة!