حينما تقيم بين كثير من العقول غير المتجانسة، تجبرك الظروف حينها على تغيير جلدك ألف مرة في اليوم، وما أنت بمتطهر منك، فهناك تكون مذنباً حينما تكون أنت، فأنت لا تملك نفسك ولا معتقدك أو فكرك، فحياتك مقيدة بوجود أغلال محددة لا تستطيع السير بأكثر مما مدت لك، فأنت في الحقيقة لا تمثل ذاتك إنما تمثل ما تمليه عليك السلطتان (الاجتماعية – العرفية)، وإن كانت تلك السلطات تتلطى خلف مفاهيم تحمل مضامين إنسانية فهي –بطبيعة الحال– تأخذ قيماً مطلقة غير قابلة للطرح على طاولة النقاش، في الوقت الذي تكتسي فيه القيم المدنية بطابعٍ نسبي يسمح للإنسان بإعادة النظر فيها حسب الأوضاع والسياقات والمصالح المختلفة التي تقتضيها الحاجة الوقتية، بيد أن الخصوصية تم تغليفها بكمية مرجعية اختزلت القداسة في نفسها، مما يجبرك إلى محاولة الاتساق مع هذه المرجعية في نمط لا يتماشى مع شخصيتك الحقيقية، فتضطر (مجبراً) إلى ارتداء الأقنعة التي تجعلك مقبولاً من قِبل أرباب السلطة. ولكن، هل مجتمعنا مجتمع متدين حقاً؟ نعم إنه مجتمع متدين، بل متدين جداً، ولكن ليس بدين الله بل بدين الشيخ والعادات والتقاليد، فهم مهووسون بتحسين مظهرهم الديني أمام المجتمع الذي يضمن لهم صُنع واجهة أخلاقية من الورع المصطنع، ففي الوقت الذي يدَّعون فيه أنهم مجتمع أخلاقي يسير وفق ما يقوله الله ورسوله نجدهم مجتمعاً يطوع الدين بما ترضاه أهواؤهم، فتجدهم -مثلاً لا حصراً- يدرسون أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقول (لا فرق بين عربي أو أعجمي إلا بالتقوى)، ولكنهم يأبون سوى أن يضعوا الفوارق بين العربي والأعجمي، وبين الشمالي والجنوبي، وكثيراً ما يتم رفض الزواج بناءً على هذه العنصرية، وكثيراً ما يتم قبول بعض المعاملات الحكومية وفق مسيرات شكلية من الزهد المفتعل، وبين ذاك القمع العنصري والحق في ممارسة الحياة يضطر المواطن البسيط إلى الركون لوسائل التمويه التي يستخدمها كقناع يتفاوت سمكه وشكله طبقاً لتفاوت درجات الاستبداد العنصرية -المصبوغة بصبغة دينية- الممارسة عليه. إنه لمن الطبيعي أن يسعى الإنسان إلى تأمين حياته وضمان سلامتها ومستقبلها، وإنه لمن مكملات الرضا النفسية أن يكون المرء محبوباً ومقبولاً وسط مجتمعه ككيان مستقل ومنفصل في ذاته، يمارس حياته بالشكل الذي يراه مناسباً دون المغالاة في الامتثال للمقاييس الاجتماعية والعرفية التي تنسيه في غمرة تفاصيل يومياته مقدار ما يفقده من ذاته مقابل ما يحققه من صور أمام الآخرين، ليكتشف في نهاية المطاف أنه أصبح عبارة عن أقنعة سرعان ما تنقشع في مساحات الظل لتبرُز وجوه شاخت من كمية التناقض والازدواجية الهائلة التي تعكس كمية خسارة الإنسان من إحساسه بالأمان الداخلي الذي هو بحد ذاته مطلب يحقق غايات إنسانية في عملية التواصل الاجتماعي والتعايش البشري الذي يجب أن يسير وفق منظومة أخلاقية قيمية تبني مجتمعاً متقدماً ومتكاملاً يتلاحم فيه أبناؤه في مناخ من المصداقية والحرية التي لا تتعدى على حياة الغير وحرياتهم.