الإنسان عندما يُسلب حقه في اختيار مسار وعيه ويُصادر الفرح من حياته، فماذا بقي له من وجود سوى التبعية والانصياع؟! إذاً هل نستنكر اليوم ماتبثه الإحصائيات العالمية من مستويات متردية للقراءة في العالم العربي؟ كل عام؛ بعد انتهاء معرض الرياض الدولي للكتاب يحضر ذات التساؤل؛ هل هذا الحضور الجماهيري الواسع في أيامه العشرة نابع عن رغبة صادقة في الاطلاع والمعرفة وتوسيع المدارك وتصحيح المسار مايعّد تهيئة للانتقال لمراحل أعلى على مستوى الوعي بالواقع وبالإنسان وبالحياة وبالإنجاز تجعلنا نلحظ باستبشار التغيير الأرقى لمفهوم الحريات وقبول الآخر والتسامح وتحصيل التقدم في مسارات الأنسنة والمعرفة ومن ثم الوصول للإبداع والابتكار والمساهمة في مشروع الحضارة الإنساني، أم أن الموضوع ما هو إلا ظاهرة شرائية افتتنا بها وتلبستنا حتى لم نعد نفرق بين اقتناء الكتاب واقتناء ما تنتجه الشركات والماركات العالمية من ملابس وحلي وكماليات؛ كتلاقح يوالي استيلاد منتجاته بين القوة التسويقية والقوة الشرائية؟.. لا أنوي الجزم برأيٍ حول أين يكمن التحديد حول هذه الثنائية، لكني أعتقد أن ربط التحول في الوعي بممارسة فعل التردد على معارض الكتب يتطلب قراءة المؤشرات وربطها بالنتائج كيما نلمح بفعل معيار هام من معايير القراءة الاستدلالية؛ " معيار المقارنات" الفروق بين ما قبل وما بعد الفعل الثقافي لنصدر ملاحظات قياسية تشي بمردود التظاهرة على وعي المحيط المجتمعي ومن ثم الوصول للمخرجات "النتائج" لوضع خطة التقدم- تراكمياً- للأعوام القادمة، مستلهمين على ضوئها حقيقة الرغبة للتغيير في مجال الوعي العام بقراءة حرة مستنيرة على مستوى الفعل؛ (إقامة المعرض) والنتائج؛ (تحقق التقدم) في مسيرة تنمية وبناء الإنسان بالقراءة الفاعلة للكتاب.. المؤشرات الدالة بنتائجها التي تواجهنا قبل وأثناء انفضاض المولد"المعرض" تشي بتكرار ممارسات معيقة كل عام ضد المعرفة، ضد فعل القراءة، ضد الأنسنة، وضد إحراز التقدم بالوعي، وتسلمنا لحالة إحباط تعيق احتفاليتنا بالكتاب في بيئة لا زالت تقبض على العقل وتوجه مساره؛ بما هو مارقٌ يحتاج لمقيد، وضال يحتاج لمسترشد!! لازلنا قبيل كل موسم للكتاب نواجَه بحشد جيوش الترهيب من الكتاب والتحذير من قراءته، وها هي آخر ابتكارات الوصائيين ينصحنا صاحبها بعدم الذهاب فرادى لمعرض الكتاب، وأنه لابد من اصطحاب موجّه خبير بأسرار الكتب ليقينا شر الكتب والوقوع في براثن أفكارها، فالكتاب- كما يرى هذا المحرض على الكتاب- ينكت في القلب نكتاً بيضاء أو سوداء..طبعاً بياض النكت يتحدد بكتب التراث الصفراء؛ خاصته وجماعته، أما السوداء فيوفرها لكل النتاج المعرفي؛ الأدبي والفكري والعلمي والفلسفي العالمي؛ أي الذي يبعث التحدي المعرفي ويحمل الإضافة الحقيقية للعقل، فالناس- في رأي خبير النكت البيضاء والسوداء- قصّر لا يستطيعون تحمل مسؤولية اختياراتهم التي كفلها الخالق لهم، لذلك فالوصي الخبير يستطيع تحديد نكت الكتاب من عنوانه (يا.. أبيض يا..أسود)، أما المجاز والتأويل فيندحر أمام مواهبهم الحَرْفِية القابضة على الحقيقة بلونيها العتيقين، وتأتي الفرق المحتسبة المنفلتة من عَقلها وعِقالها لتترجم نصيحة المرشد بكل همجية صارخة، معترضة على كتب شعراء أفذاذ بأسلوب وطريقة أعراب البادية الأجلاف... وتتكرر حوادث هؤلاء الأوصياء الذين دائماً ماينفرون زرافات ووحدانا لجميع المهرجانات للتشويش على الناس، كما حدث في الجنادرية عندما حضر أحدهم بصرامة الواثق من حقه بلا وجه حق ليقطع فرقة الباحة وهي منسجمة بأداء فن شعبي ورقصة مبتهجة وبدون استئذان أو انتظار لانتهاء الفرقة من وصلتها أخذ الميكرفون ليلقي موعظة ساذجة تكررت آلاف المرات وملها الناس لسماجتها، وعندما أنهى وصلته التي أكره الجمهور على سماعها خرج معززاً مكرماً تحت وابل الترحيب الذي أطلقته الفرقة من بنادقها، وهل تملك غير ذلك ؟!! يجتمع هؤلاء في أخلاقهم على صفة التعدي على الحريات بكل وقاحة، بدون أدب ولا لطف فضلاً عن حكاية الاستئذان التي لا يمكن أن يتحلى أحدهم بها، خاصة وقد أعطوا صلاحيات ملكية العقول والأمكنة والأزمنة كآلهة لا تسأل عن شيء وغيرهم يُسألون!! الإنسان عندما يسلب حقه في اختيار مسار وعيه ويصادر الفرح من حياته، فماذا بقي له من وجود سوى التبعية والانصياع؟!، إذاً هل نستنكر اليوم ماتبثه الإحصائيات العالمية من مستويات متردية للقراءة في العالم العربي؟ أم نتوقع قرب انفراج للفضاء العام وهو مسيج بسيطرة أعداء الكتاب والعقل والفرح ؟!! هذا الاضطهاد الفكري ما لم ينزح فلن نأمل بفعل قراءة يحملنا لأجواء الحضارة وأخلاق الحضارة. تنظر لأخلاق تلك الجماعة المنفلتة بسوء أدبها وجهلها فتتساءل بداية: أيليق ذلك في جو كتاب أصلاً؟!، وعندما تجدهم وقد حققوا تنفيذ وصايتهم وصودرت الكتب التي اعترضوا عليها، تدرك أن مسار الحضارة منا ليس بقريب، فالواقع ينضح بحجم المأساة؛ مأساة الوقوع في شرك التقييد والوصاية، ومأساة المشي في ركابها الإكراهي المنغلق رغم الأنوف، فإلى متى وهؤلاء فوق كل تنظيم وخلف كل تخلف؟! ولماذا تطلق الحرية لسوآتهم العقلية لتَأمر فتُطاع وتَنهى فتُجاب؟!! إن من أبسط حقوق عقل المرء عليه ألا يفتحه لغيره ليملأه بما يريد، وأن يصونه من أرباب فكر الوصاية وكهنة الانغلاق، فالمعرفة لن تأتي لأحدنا مالم يفتح بابها على مصراعيه بكل حرية وانطلاق، لينهل من معينها المعطاء، أما ما يمارسه الوصائيون من نهينا عن المعرفة باسم الدين، فإنما هي مهمتهم المبجلة في خلط المفاهيم، فالدين في علاقته الحميمة مع حرية الفكر وحرية الضمير، ويستحيل أن يقف في صف الجهل والمجهلين، بل إنه يدعونا لفتح آفاق المعرفة والاطلاع الحر وبناء وعي فكري مستقل مستنير، ينهض بذاته وقناعاته ومعتقداته الدينية والدنيوية، ليؤهل أفراده للوصول للابتكار والإبداع.. إن العصر الحديث الذي امتلك صناعة الحياة يعطي ما للعقل للعقل وما للروح للروح، لكن المشوار بيننا وبين توفير الاحتفاء بالعقل يطول طالما هذه الطغم الوصائية تملك فرض أجندتها وتطبيقها وتنذر بالمزيد، ففي ظل تحكمها لا نستطيع أن نلوم الأفراد المعتقلة عقولهم في قصور قدراتهم عن الابتكار والإبداع طالما لا زالت شرعنة الاعتداءات على حرية العقل والتفكير متاحة بل ومفروضة.. يعرّف أحد الفلاسفة الإبداع بأنه" قدرة العقل على تكوين علاقات جديدة من أجل تغيير الواقع" معنى ذلك أن الإبداع ينطوي على عنصرين: الجدة والتغيير، وهو ما يحاربه المتطرف دائماً في غزواته المكررة؛ الحاشدة الناصحة، والمرهبة المتعدية، مايعني أنه يطلق صراخاً على قدر الألم؛ صراخاً لأجل البقاء، خوفاً من الانزياح عن المشهد بفعل تعظيم شأن القراءة باعتبارها -لا سواها - المهدد لبقاء هؤلاء المتكومين على حزمة مصالح وجودهم، المتطلبة سلب العقول والتحكم في مسارات الفهم والقبض على المعرفة بيد من حديد كعدو لدود، فالطغمة الوصائية المستبدة لن توفر جهداً وستعمل كل مابوسعها كيما تعيد الجميع إلى معبد التراث الأحمق؛ الذي ينشد الحياة من الفناء، ويطلب المستقبل خلف مقابر الماضي، ويرسم الخطط على جثث الأسلاف.. إن مشكلتنا الأزلية تنطلق لتعود مِن وإلى اعتقال الحرية؛ فالتجاوزات المكررة لا يمكن قراءتها من مجرد التقاط بعض العثرات التنظيمية أو الثغرات الإدارية الظاهرة هنا وهناك؛ لأن المشكلة أكبر بكثير؛ عبارة عن تركيبة تراكمية لأفكار وممارسات وتعديات اكتسبت بفعل تكرارها بداهة التعدي، مستأنسة بالحجر على الحريات كفعل طبيعي لا يقبل النقد أو التوقف لمجرد المساءلة إزاء الجرم المتواصل، فالبناء الذهني الجمعي والمتساوق مع التعديات يمنح سلطة مطلقة للتدخل اللا مشروع في الشأن الفرداني لفئة الأوصياء، مايجعلنا نتجرع الأمر سكوتاً على مضض، أو رضا مأسوراً للخلط والتخليط.. يتفاقم فعل الوصاية الحقير عندما يتجاوز فئة الوصائيين المنغلقين إلى منظمي معرض الكتاب لينتجوا وصاية من نوع خاص؛ وصاية بثياب ثقافة؛ كتنحية المرأة وبقائها في الندوات الثقافية معزولة عن المشهد الثقافي تطل من دور عالٍ يخفيها ليقصيها، في صورة فاقعة مضطهدة للفكر والإنسان.. وعلى هامش المعرض تأتي ندوة"الوعي العربي والسياقات الراهنة" متشظية لا تكاد تمسك منها بطرف ممثلة حالة (كل يغني على ليلاه) بحسب تعبير الزميل الكاتب د. عبدالله القفاري في مقالته "ليلة البحث عن الوعي العربي"، والتي تناول بها هذه الندوة مفنداً وعيها المأسور للتوهان والضياع، منطلقاً منها إلى نقد البرنامج الثقافي الذي جاء كتحصيل حاصل وملء فراغ كما قال، وتوالي ندوة الوعي خيبات وعيها في مستوى إدارتها المتجاوز حدود اللياقة والأدب في مقاطعة المداخلات النسائية من مديرها بأسلوب لا يقل عن وصفه بالذكوري المستبد الذي تعود أن يحتل المركز والمكان والفضاء، خاصة وهو يخبئ المرأة مسربلة بالفتنة والانتقاص، فيا أيها الوعي من رآك، ومن وعاك؟! ختاماً وللأمانة؛ فمعرض الرياض للكتاب يعكس تقدماً ملموساً في توفير التقنيات المنظمة للبحث عن الكتب إليكترونياً، لكنه وضمن المعايير الدولية لازال مطالباً بتوفير النظام الأعم والأهم الذي يرقى بمستوى هذه التظاهرة الثقافية الكبرى على مستوى التناول والتعامل بما يفرض أجواءً أكثر تمدناً وشمولية إنسانية راقية..