غياب المرأة عن ممارسة النشاط الفقهي، أقصاها عن المشاركة في صناعة وكتابة المدونة الفقهية الضخمة، وبالتالي أسدل هذا الأمر حجاباً كثيفاً دون المرأة وحقوقها الشرعية، واستبد بالقوانين فكر ضيق ومتعصب يميل إلى التضييق وسد الذرائع وتضييق الواسع. مما خلق ظلماً وظلمات كثيرة بعضها فوق بعض، كثيراً ماتصادفنا حولنا في نساء مستلبة حقوقياً إما في خلع أو حضانة أو ميراث..أو غيره. وإن كانت المؤلفات التي حاولت إعادة قراءة المدونة الفقهية والأحكام والفتاوى المتعلقة بالنساء بعين مستقلة وحيادية محدودة وتكاد تعد على الأصابع، فإنه في المقابل هناك حالة صمت شمولي من المرأة الدارسة للعلم الشرعي نفسها، حيث تظل مكتفية بما ينتجه الفقيه لتهرع وتنصاع له بدون نقاش أو تفكيك للأطروحات بشكل شجاع صريح يعبر عن معاناة بنات جنسها. (لانغفل هنا بعض الأعمال المتميزة في هذا المجال من قبل باقة من دارسات العلم الشرعي في المغرب العربي). هناك بحث أو(تحقيق) قيم وجاد لم ينل الاحتفاء الذي يليق به قام به د. جاسر أبو صفية، وصادر عن (مركز الملك فيصل للبحوث) تحت عنوان(حقوق المرأة في البرديات العربية على ضوء الكتاب والسنة). والكتاب يحقق عدداً وافراً من المخطوطات القديمة عبر التاريخ الإسلامي، متقصياً حقوق المرأة فيها، مصوراً المساحات الحقوقية الواسعة في السابق والتي أخذت مع الوقت تضيق دونها حتى كادت أن تتلاشى. والمحقق يشير إلى أن(كل ماكتبه الفقهاء الأجلاء عن المرأة وحقوقها، لايعدو الجانب النظري في معالجة المسألة، ولم يسجل الفقهاء وثيقة واحدة معتمدة تبين حقوق المرأة، حتى إذا جاء الفقهاء المحدثون نقلوا ماقاله الفقهاء القدامى، وشرحوه وفصلوه حتى أصبحت الكتابة لا مجال فيها لجديد كتب تنقل عن بعضها البعض كلاماً مكروراً). بينما يرى هو أن في هذا العصر يجب تجاوز هذا الركام الفقهي والفروع المشتجرة التي تحولت إلى أصول واللجوء للمنابع الأولى وإلى وثائق شرعية مكتوبة. ومن هنا كان هدف تحقيق البرديات الذي قام به والمتضمن أحكاماً تحفظ حقوق النساء الشرعية. حيث أدرج أحكاماً شرعية جمة تحفظ حقوقها:- كحقها في اختيار الزوج-وحقها في تملك صداقها-وحقها في حسن صحبة الزوج لها- وألا يمنعها من أهلها ولايمنع أهلها منها، وحقها في أن تشترط ألا يتزوج أو يتسرى أو يتخذ أم ولد عليها كما في (عقود الزواج الأندلسية) فيبدو أنه حيثما تكون هناك نهضة حضارية يكون هناك تبجيل وتقدير لحقوق المرأة. فعقود نكاح المرأة المسلمة في الأندلس كانت تشترط (أن لايغيب عنها غيبة بعيدة أو قريبة إلا في أداء فريضة، فإن غاب يصبح أمرها بيدها، وأن لايرحلها من موضعها إلا بإذنها ورضاها، وعليه مؤونة انتقالها ذاهبة راجعة..) وسوى هذا كثير من الأحكام التي تعاني في وقتنا الحاضر من حالة تعتيم وطمس متواصل ولانكاد نسمع به سواء في الفتاوى التي تطوق النساء أو المناهج التعليمية أو في المؤتمرات الأكاديمية أو تلك المتعلقة بالقضاء. مخطوطة د. أبو صفية تمتلك في جنباتها قيمة تاريخية، وفقهية كبيرة، تستحق الاهتمام والقراءة والنهل من منبعها، ولو هو في يدي لوضعت نسخة منها على مكتب كل قاض في بلادنا يحكم في شؤون النساء.