قدمت في المقالة السابقة حديثاً حول بعض المواقف الفهمية للفقيه حول المرأة وكيف تشكلت متأثرة بالحالة النفسية والاجتماعية والسياسية للفقيه، كما هو متأثر أصلاً وبلا شعور بالموروث الثقافي الفلسفي والديني القديم. وهذا أمر لا ينفك عنه البشر. أقصد التأثر والتأثير. لكن العتب أن يتم توارث الغلط بل تعليمه وتنميته، ولعل البعض ممن علّق على المقالة رأى أنها قراءة إسقاطية على مواطن الضعف الفقهي، بيد أن ما أقرأه هو الفكرة في تحولاتها، وقراءة الأفكار لها طبيعتها ومرتكزاتها المختلفة عن أي قراءة أخرى، ومن ذلك أن البعض من الفقهاء وهو يتحدث عن العلل -والعلل والتعليل عمل فكري بحت- يجعل من نقصان المرأة بأنوثتها سبباً تعلق عليه الأحكام. فهذا الفقيه أبوبكر بن العربي يقول: «فأما قياس العلة فهو كقولنا في أن المرأة لا تتولى نكاحها، لأنها ناقصة بالأنوثة فلم يجز أن تلي عقد النكاح كالأمة، فاتفق العلماء على أن الأمة لا تلي عقد نكاحها واختلفوا في تعليله، فمنهم من قال إن العلة في امتناع إنكاح الأمة نفسها نقصان الرق، ومنهم من قال نقصان الأنوثة، فنحن عللنا بنقصان الأنوثة وعللنا عليه الحرة». ونحن نتجاوز مباحث فقهية في قبول خبر المرأة وعدالتها في نقل الحديث، وإن كان لهم نصوص ستكون تحت المجهر. إلا أن هذا النوع من العلم لا يمس المجتمعات اليوم كغيره. نجد في المدونة الفقهية في كتاب النكاح نظرات لا إنسانية للمرأة. ومن ذلك قول الغزالي في الإحياء: «والقول الشافي فيه أن النكاح نوع رق، فهي رقيقة له، فعليها طاعة الزوج مطلقاً»، ويقول ابن عقيل: «ولا خلاف بين الناس في صحة إكراه المرأة على إيقاع الفعل فيها بالوطء، لأنها محل لإيقاع الفعل. والذي يصح الإكراه عليه إنما هو أفعال الجوارح الظاهرة المشاهدة التي يتسلط عليها التصريف في المرادات من الأفعال فتقع أفعالها بحب الإلجاء إلى أحد الدواعي. فأما الإكراه على ما غاب وبطن من القلوب فلا...». ولقد خاض فريق من علماء الأصول في مبحث تفاوت العقول لتشريع نقص المرأة أمام الرجل. وإذا كانت هذه مغالطة تنطلق من فهم قاصر لحديث النبي - صلى الله عليه وسلم-: «ما رأيت ناقصات عقل ودين منكن...» الحديث، وهنا ينبري الإمام أبو محمد بن حزم معلقاً على هذا الحديث: «إن حملت هذا الحديث على ظاهره فيلزمك أن تقول: إنك أتم عقلاً وديناً من مريم وأم موسى وأم إسحاق، ومن عائشة وفاطمة، فإن تمادى على ذلك سقط الكلام معه ولم يبعد عن الكفر، وإن قال: لا سقط اعتراضه واعترف أن من الرجال من هو أنقص ديناً وعقلاً من كثير من النساء. فإن سأل عن معنى هذا الحديث قيل له: قد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وجه ذلك النقص، وهو كون شهادة المرأة على النصف من شهادة الرجل، وكونها إذا حاضت لا تصلي ولا تصوم. وليس هذا بموجب نقصان الفضل ولا نقصان الدين والعقل في غير هذين الوجهين فقط. إذ بالضرورة ندري أن في النساء من هن أفضل من كثير من الرجال، وأتم ديناً وعقلاً». وتعجب وأنت تقرأ في التفاسير محاولة التبرير لأفضلية الرجل على المرأة من نحو قول الرازي: «واعلم أن فضل الرجال على النساء حاصل من وجوه كثيرة. بعضها صفات حقيقية، وبعضها أحكام شرعية. أما الصفات الحقيقية. فاعلم أن الفضائل الحقيقية يرجع حاصلها إلى أمرين: إلى العلم وإلى القدرة. ولا شك أن عقول الرجال وعلومهم أكثر، ولا شك قدرتهم على الأعمال الشاقة أكمل. فلهذين السببين حصلت الفضيلة للرجال على النساء في العقل والحزم والقوة والكتابة - في الغالب- والفروسية والرمي. وأن منهم الأنبياء والعلماء، وفيهم الإمامة الكبرى والصغرى، والجهاد والأذان. والسبب الثاني لحصول هذه الفضيلة. قوله تعالى «وبما أنفقوا من أموالهم»، يعني أن الرجل أفضل من المرأة لأنه يعطيها وينفق عليها...». إن فكرة نقص المرأة وأفضلية الرجل عليها لا تقف عن حد. بل تتشكل منها ثقافة دينية وأدبية ومجتمعية خطيرة. فهي «حبائل الشيطان» ومن هنا نطق الشعر: كن ما استطعت من النساء بمعزل*** إن النساء حبائل الشيطان وما دام الأمر كذلك في فهم البعض، فإنه يقتضي الوصاية عليها وحراستها إلى حد يفقدها ذاتيتها. وفي الامتداد الفقهي لهذا الفهم نتجت ممارسات حديثة على مدونات الفقهاء. فأصبحت تقرأ: فتاوى المرأة عند ابن تيمية، وفتاوى النساء في مجموع ابن تيمية. وهكذا في سلسلة كثيرة من الكتب والمطويات، حتى استجاب الباعة لهذه الفكرة فخصصوا أرففاً ل «كتب المرأة والطفل»! يا قارئي: سيبقى الكلام مفتوحاً في هذا النوع الهادف من النقد. والمقصود منه إيقاف الممارسات الفهمية الغالطة والتأسيس لفهوم أكثر رشداً لا تستبعد عقلاً ولا تتجاهل واقعاً. [email protected]