مرت الذكرى الخامسة عشرة على رحيل الجواهري، وكان من المتوقع ان تكون مناسبة لافتتاح متحفه، بعد ان أعلنت الحكومة اعتبار بيته ضمن أملاك الدولة. وليس بمقدورنا التخمين من هي الجهة التي تولت مسؤولية ترميم البيت وتحويله الى متحف يجمع تراث الجواهري، ولكن الذي نعرفه جيدا ان العراق لا يملك تقليدا في هذا الشأن، فلا وجود لمتاحف تحوي إرث الشخصيات المهمة. بيت عائلة جواد سليم الذي فرغ بعد وفاة نزيهة سليم، وهو ما تبقى من مكان شخصي لمجموعة من الفنانين بينهم جواد ونزار وسعاد ونزيهة، هذا البيت في الوزيرية، يكاد يلفه الغبار والنسيان رغم كل المطالبات لانتشاله من مصير معلوم. طويت صفحات كثيرة لكتاب وفنانين وعلماء في ميادين شتى، دون ان تتبنى جهة ما احياء ذكراهم عبر متاحف صغيرة يقصدها الناس وطلبة المدارس وزوار العراق. بيوت الرموز الثقافية التي تتحول إلى متاحف، هي في حد ذاتها ظاهرة حضارية، تحفظ ذاكرة الأماكن التي أقاموا فيها، كما تعبّر عن رمزية حضورهم، مثلما تعزز لدى الأجيال الجديدة عمق الانتماء الحضاري. ولا تكلف المتاحف الصغيرة الكثير، ولكنها تنعش السياحة الثقافية كما هي العادة في بلدان العالم المتقدم، فهي فضلا عن قيمتها التاريخية، تمنح الأماكن خصوصيتها وحميميتها. الإقدام على اقامة متحف للجواهري لا يوازي جهد تلك الاحتفالات التي جرت في ذكراه، سواء ببغداد او كردستان، ودعيت إليها شخصيات من الخارج، بل ربما يعوض هكذا متحف عن الكثير من الندوات التي تقام على شرف الجواهري كل سنة ويجتر فيها الكلام نفسه. لم يمض وقت طويل على وفاة الجواهري، وهذا قد يُسهّل مهمة من يتولون اقامة متحف له، فشاعر مثله ارتبط شعره وحياته بتاريخ قرن حافل بالأحداث في العراق، ترك بصماته في كل مكان. ولعل بمقدورنا ان نتصور سهولة التنسيق بين اتحاد الأدباء والجواهري مؤسسه الأول وراعيه، ووزارة الثقافة وبعض أبنائه وأهله ومعارفه واصدقائه، وهم كثر في العراق اليوم. بمقدور هذه الجهات مجتمعة ان توفر مادة عن حياته الشخصية والأدبية: أعماله، البحوث التي كتبت عنه، رسائله، صوره، لوحات ومنحوتات انتجها الفنانون العراقيون عنه، بعض ملابسه واثاثه وكتبه التي رافقته، الأوسمة وشهادات التكريم التي حصل عليها من الدول، مع أرشيف منظم لمحطات من حياته، ومقاطع من الأفلام والمقابلات التي جرت معه، وسواها من الأشياء التي تتألف منها متاحف الكثير من المبدعين في العالم. بمقدور تلك الجهات الاستعانة بخبرات فناني المسرح المتمرسين في الإضاءة والديكور وترتيب المكان، إن لم تسمح الظروف بجلب خبرات من الخارج، وخاصة من براغ التي تحفل بمتاحف من هكذا نوع، فضلا عن كونها منفى الجواهري حيث قضى عمرا بها. وفي الظن ان الحكومة وحدها لا تلام على اهمالها انشاء متحف للجواهري او جواد سليم او علي الوردي او السياب وسواهم من الفنانين والمفكرين والأدباء، فاتحاد الأدباء وجمعية الفنانين التشكيليين، والجمعيات والروابط الأخرى، تحمل تصورا كسولا عن مهماتها، وقد تعودت لوم الحكومات في هذا الشأن، واكتفت بانتظارها مبادرة تأتيتها من خارج جهدها. او لعل تاريخ العلاقة المثلومة بينها وبين الحكومات قد تسببت بهذا الكسل. فلم يكن بمقدور جهة ما تكريم رائد من الرواد، لأن مثل هذه الخطوة ستكون تجاوزا على صورة الزعيم او القائد التي تعوّد العراقيون على ان تكون الوحيدة في حياتهم. بقي الجواهري يحتفظ بقيمة كبيرة في حياة العراقيين، فهو الصوت الذي رافق سنوات تشكّل الهوية العراقية، حيث أرخ في قصائده تلك المسارات التي صنعت نموذجها. ولعل قصيدة المناسبة، وهي بقايا الشعرية القديمة، كانت تكتسب صنعة جديدة عند الجواهري، صنعة هي أقرب إلى الصحيفة أو المدونة التي لا تهمل الوقائع ولا تقف موقف المتفرج عند تسجلها، بل كان بصوته الهادر وعاطفته الشخصية وتفاعله مع الحس العام، يمنح تلك المناسبات، ما يمكن ان نسميه قراءة تاريخية، او صورة معاصرة للحدث او الشخصية او المناسبة التي يكتب عنها. ولا غرو فالجواهري ابن عصر الصحافة، حيث كانت الصحف في عهد تأسيس الدولة العراقية، الظاهرة الأبرز للحداثة السياسية والاجتماعية، يوم كانت منبرا لحرية وتعددية الرأي. كانت الصحيفة بيت الجواهري المفضّل، كما كتب في مذكراته، حين أصدر اكثر من ثلاث صحف، وخاض غمار الرأي المعارض وانتقل بين الخنادق من خلالها، ولكنه بقي الشخصية الأجدر التي اختارها الصحافيون، كي تكون على رأس أول اتحاد لهم. نص الجواهري الشعري يحاذي أفقا في القصيدة يعود إلى عصر الزهو العباسي، ولكنه ينتزع من تاريخية هذا الانتساب مفارقة حلوله في الحاضر، حين تكتسي الأصالة عنده ملمحا جديدا وهي تنكتب بمفردة قديمة يصقلها بوهج الأحداث ووقعها في نفوس معاصريه العرب. لكل قصيدة كتبها الجواهري ذاكرة خاصة، ولكن أكثرها تتشارك فيها الذاكرة الجمعية، لا لكونه تغنّى بالعراق في كل مراحله، وأرخ لحوادث العرب وشخصياتهم، بل لأنه ايضا كان الأقسى في هجاء الطائفية والعنصرية، كما جاء في شعر كثير له، وعلى وجه الخصوص قصيدته التي شاعت بين العراقيين "طرطرا" لسهولة لفظها، ولشحنة السخرية والتهكم التي تحويها. كتبت هذه القصيدة العام 1946، ولكنها تبدو وكأنها تخاطب الحاضر، وتمثل كل أوجهه القبيحة. يقول الجواهري فيها : أيْ طرطرا تطرطري تقدمي، تأخري تشيّعي، تسنّني تهوّدي، تنصّري تكرّدي، تعربي تهاتري بالعُنصر الى آخر القصيدة التي كان فيها الجواهري ابن عصره، ولكنه ترّفع عن ان يحشر نفسه في الباب الضيق للانتماءات. وان كان بمقدورنا ان نستعيد الجواهري اليوم، فسيحضر العراق ككيان، فقد كان أقرب إلى رواة الملاحم في عصر الاغريق، كما قال عنه جبرا ابراهيم جبرا، حيث جمع خلاصة تراجيديات العراق الكبرى وتواريخه، مع حنين لأماكن الالفة التي غادرها مرغما. قصيدته "يا دجلة الخير" التي ألقاها بصوته الجميل، بقيت علامة في تاريخ الشعرية العراقية، رغم ما مر على هذه الشعرية من متغيرات كثيرة. أما قصيدته "أرح ركابك" فقد عاد فيها الى العراق العام 1969، ولكنه غادره بعد أن أطبق ليل البعث عليه، ولكن تلك القصيدة بقيت تلوح له ولكل العراقيين المغادرين بما يشبه الأمل المستحيل: أرح ركابك من أين ومن عثر كفاك جيلان محمولا على خطر كفاك موحش درب رحت تقطعه كأن مغبره ليل بلا سحر فهل سنسمع في متحف الجواهري تلك الأصداء البعيدة لصوته وهو يعلو ويهبط في قرار يصله بدجلة الخير؟