يطرح أحد الطلبة المتميزين في معملي أسئلة كثيرة عن التجارب التي يقوم بها، وهي أسئلة تبتعد أحيانا عن التفاصيل التقنية المتعلقة بتجاربه لكنها تصب في رغبته في أن يعرف فائدة البحث الذي يقوم به. مثلا النتائج التي يحاول إثباتها هي نتائج تتعلق بطفرة واحدة في جين جديد في عائلة واحدة، لذلك هو يحاول أن يفهم فائدة أن يوجد فريق بحثي كامل بكل تخصصات أفراده كي يتعرفوا على ميكانيكية عمل طفرة واحدة في موروثة واحدة في مرض ما. أسئلته ذكّرتي بسؤال في برنامج إذاعي بريطاني وجه لبروفيسور له تاريخ بحثي طويل حيث سأله المذيع قائلا؛ لقد أفنيت عمرك في أبحاث كثيرة عن مرض مناعي نادر، ماذا استفدت؟ ليجيب؛ إن هذه الأبحاث على المرض النادر التي قام بها علماء كثيرون ولست أنا وحدي أسست لمفاهيم واضحة وأساسية في علم المناعة وشكلت نقلة في الفهم والوعي للجهاز المناعي. أسئلة الطالب الذكية جدا هي أسئلة منطقية، ماذا أستفيد كباحث، وكطبيب وحتى المريض من هذه الأبحاث؟ حين نتحدث عن المجتمع المعرفي، فإننا نخرج في البحث العلمي الطبي من دائرة التوصيف أي وصف الحالة المرضية بأعراضها ومعرفة مسبباتها إلى دائرة أوسع تتعلق بمعرفة ميكانيكية تطور المرض. في بدايات القرن الماضي كانت الأبحاث الطبية تتعلق معظمها بوصف الحالات المرضية وتوثيقها، بعد ذلك بفترة طويلة بدأت الأبحاث الوراثية بمفهومها الحاضر والتي ركزت على معرفة الطفرات الوراثية والموروثات المسببة ليأتي مشروع الجينوم البشري ويوثق الموروثات البشرية وتتراكم الأبحاث في التعرف على دور هذه الموروثات في الصحة والمرض. والآن لا تتوقف الأبحاث عند التعرف على موروثة أو طفرة بل تتجاوزها إلى محاولة معرفة دور هذه الموروثة في الخلية وفي النظام البيولوجي داخل الجسم، فلا يكفي أن تصف السبب وأن تسجله كاكتشاف معرفي بل عليك أن تثبت دوره في الصحة والمرض. لو نظرت للتطور البحثي العلمي والطبي ستجد الانتقال من المرحلة الوصفية والتسجيلية لحالة مرضية أو لمشاهدة علمية في زمن مضى إلى مرحلة أكثر عمقا وهي مرحلة تحليلية تتناسب مع التقدم التقني والعلمي لعصر أصبحت فيه الأسئلة والفرضيات العلمية أكثر تعقيدا في فكرتها.. وما تريد أن تصل إليه، وما أقصده بالتعقيد هو أننا في زمن ابتعدنا فيه عن التفسير الأحادي للمعضلة العلمية حيث نتحدث عن الوراثة والعلاقة بين الوراثة والبيئة وعن المسببات الوراثية المتكاثفة والتي قد تشمل تأثير أكثر من موروثة وغير ذلك، وهنا نحتاج لسعة الأفق وتوفر الرؤية كي نخرج من دائرة تفكير علمية محدودة إلى دائرة أكثر شمولية.