التفتتْ لي لتتأكد من أنني السيدة التي تحدث عنها الخبر الصغير، وهو خبر يتحدث عن اكتشاف المجموعة التي أعمل معها لموروثة مسببة لأحد الأمراض. كانت أسئلتها كثيرة، لكنها تتمحور حول فكرة واحدة فقط؛ ماذا تفعلون؟ ماذا يعني بحث علمي؟ هل اكتشافاتكم هذه تعني أنكم قضيتم على المرض؟ وهي أسئلة منطقية، فهذه السيدة تريد أن ترى النتيجة النهائية، هذه النتيجة في نظرها تتلخص في القضاء عن المرض. لكن كيف يمكننا أن نتعامل مع المرض ما لم نفهمه؟ كما أنه ليست كل الأمراض يمكن الشفاء منها شفاء تاما، هناك حالات مرضية كثيرة تقتضي التعايش معها حيث يتحول بروتوكول العلاج من فكرة الدواء الذي يقضي على المسبب أو اللقاح الذي يقي منه، إلى التعامل مع الحالة إما بالتدخل المبكر كما في الحالات التي تتعلق بأمراض تتعلق بالتطور الوظيفي والعقلي بالنسبة للأمراض التي يتم تشخيصها في الطفولة والتي تؤثر في أداء الطفل، أو بطرق علاجية مختلفة حسب الأعراض الظاهرة كما في بعض الأمراض العصبية مثلا. مفهوم المرض الوراثي يختلف عن الأمراض الأخرى، فالعامل الوراثي وطريقة انتقاله ودوره الحيوي داخل الجسم ونوعية الطفرة المسببة للمرض كلها أمور مهمة تساعد في فهم المرض. ورغم أننا في زمن ما بعد مسودة الجينوم البشري وما بعد مشاريع الاختلافات الجينية وفي زمن فك الشفرة الوراثية، إلا أننا مازلنا في مرحلة تعلم ومازلنا نجهل الكثير. فنحن نعرف تسلسل الحروف داخل كروموسوماتنا ونعرف ترتيبها ونعرف أسماء الجينات، لكننا ما نزال نحاول معرفة دورها الحيوي داخل خلايانا المختلفة، لماذا تتأثر هذه الموروثة بطفرة معينة تسبب مرضا معينا؟ ومن خلال معرفتنا لذلك قد نعرف شيئا عن دور هذه الموروثة "الجين" داخل خلايانا ووظيفتها. أمراض كثيرة درستها وراثيا أو جينيا، بدأت بدراسة سرطان القولون، حيث شاهدت وتعرفت لأول مرة على الخلية السرطانية التي تقاوم كل نقاط التفتيش الجسدية لتبقى وتنتشر، مرض السرطان ندرسه على مستوى الخلية من خلال دراسة المسارات الحيوية وعلى مستوى الموروثات من خلال معرفة الموروثات المعطوبة وما يتم تحفيزه أو إيقافه منها، وأيضا من ناحية "باثولوجية" للتعرف على الخلية نفسها ومن ناحية كروموسومية للتعرف على التغيرات الكبرى التي تحدث داخل الخلية، وأيضا من خلال الدراسات السريرية لطرق العلاج المختلفة، إذن هو ليس مسار دراسة واحدا، بل مسارات بحثية مختلفة كل منها يأتي بإجابة عن سؤال ما. حين انتقلت لدراسة الأمراض العصبية والسلوكية المختلفة كان التعقيد الوراثي "إن صحت التسمية" في نفس المستوى الذي واجهته عند دراستي لمرض السرطان، ورغم أنني الآن لم أعد طالبة دراسات عليا، وأظن أنني أملك خبرة، فأنا التي أحدد مسار البحث والطرق المستخدمة إلا أنني اكتشف كل يوم الكم المعرفي والتقني الهائل الذي أجهله، فتصبح الدراسة ويصبح البحث تثقيفا لي بشكل شخصي قبل أن يكون محاولة اكتشاف جديد. نعود للسؤال؛ ماذا تفعلون؟ وماذا استفدنا منكم؟ هذه الأسئلة نواجهها كباحثين حين نبحث عن تمويل، أو حين نحاول أن نشرح جزءا من عملنا في مجال الأمراض الوراثية للآخرين، الذي نفعله قد يبدو بسيطا جدا؛ هو محاولة للمعرفة للتعلم، فنحن ندرس الحالة المرضية لمعرفة مسبباتها الوراثية، وحين نتعرف على الموروثة المسببة نحاول أن ندرس دور الطفرة الموجودة في ظهور المرض، بمعنى لماذا يصاب فلان الذي يملك هذه الطفرة في هذه الموروثة بحالة مرضية ذات أعراض بسيطة في شدتها مقارنة بآخر لديه طفرة أخرى في نفس الموروثة أو موروثة أخرى. ومن خلال دراستنا للجين المعطوب نحاول أن نفهم دوره في حدوث المرض وبالتالي نعرف دوره الأساسي في الجسم أو الخلية، فنحن مازلنا نجهل الكثير عن أنفسنا. ماذا استفدنا منكم؟ أن نتعلم سوية ونعرف الإجابة عن أسئلة تحيرنا، هذا هو الهدف، والفائدة لا تأتي إلا حين يتكامل البحث العلمي ويتوافق المسار الطبي البحث والمسح الإحصائي والجانب العلمي الدقيق. الاستثمار في البحث العلمي استثمار طويل الأمد، فأنت تستثمر في المعرفة، لايوجد بحث ينتهي في يومين، ولا في شهر. سنتان ونصف من سنوات دراستي للدكتوراه ضمن فريق بحثيّ متكامل مضت في اكتشاف موروثة مسببة لسرطان القولون، ومثلها مضت لفهم دور الطفرة من خلال بحث تكاملي قامت به مجموعات أخرى ومازالت الأبحاث تتوالى من مجموعات بحثية مختلفة في محاولة لفهم هذه الموروثة ودورها في تطور المرض. والآن بعد أن تطورت التقنية قضينا عامين منذ اكتشافنا لموروثة مسببة لمرض عصبي وراثي قبل أن ننشر البحث كاملا. البحث العلمي يعتمد على الصبر والتأني، يعتمد على استراتيجية الهدوء وسعة الأفق والحيادية في التحليل وتقبل خطأ الفرضية، فأنت لست دائما على صواب ولا تملك السقف المعرفي. أنت حين تستثمر في البحث العلمي، تستثمر في نقل التقنية، في توطين المعلومة وفي بناء العقول، وهذه أمور لا تحدث بين يوم وليلة..