الرحالة الانجليزي داوتي (خليل ) والمصنف ضمن الرحالة العلماء الذين عانوا في رحلاتهم من الذل والهوان ومشاق الحياة ومنها رحلته التي بدأها عام 1876 م إلى شمال الجزيرة العربية وآثر بعدها البقاء مع جماعة بدوية تجول معها وعاش تجربتها القاسية بعدما قبل دعوة مرافقه زيد ليعيش معه داخل خيمته ووسط جماعته الا انه كان سيئ الحظ إذ ما لبثت أن هربت (هرفه) زوجة مضيفه وخالته كما يقول التي تسقيه اللبن.! والتي كتب قصتها بسياق أدبي مشوق(رحلات داوتي في الجزيرة العربية) لا يؤخذ فيها سوى بعض التهم والإسقاطات التي ظهرت في ثنايا استقرائه وتعليقه على القصة وهي ما تم تجاوزها هنا: كان زيد وهرفه أبناء عمومة مباشرة وكانت هرفه يتيمة شيخ – يبدو أن زيدا قد أخذها جزئيا من أجل إبلها الموروثة القليلة، وكانت فتاة بدوية ثخينة ناقصة النمو، ربما كانت في العشرين من عمرها، كان الشباب الذهبي قد خبا تقريبا إلى خريف في وجهها الطفولي، لكنها ليست كريهة فقد كان ثمة ضحكة خشبية دائما في فمها تنتهي بشكل معتاد من القلب غير المشبع بالتنهيد - المرأة التي تتنهد يقول المثل (يكون لها زوج عليل !. كانت هرفه تتنهد من أجل الأمومة: فقد أمضت هذين العامين مع زوج وكانت لا تزال بنتا كما يقول البدو، وكانت تبكي سرا بأسى امرأة سامية. كان زيد وهرفة مثل اسحق وربقة، بالبساطة البدوية كانا يجلسان يوميا ويلعبان معا بعشق أمامنا لأننا كنا أسرة واحدة وعيون صدوقة، لكن في غالب الأحيان في وسط اللعب كانت هرفة تتجهم، عندئذ كان زيد يتخلى عنها ببرود، وتتفرق روحهما من جديد. كانت هرفة في نفسها المتعبة ترغب في زوج فتى غض بدلا من هذا الزيد الممل الذي كانت تشك في انه يستطيع أن يمنحها أولاداً. كانت هرفة ذات الجسد الصغير من منبتها الرفيع في حجيرات الشيوخ – شيخة بين الحريم وهكذا كانت تعتبر حتى من قبل الرجال. داوتي (خليل ) أصبحت قصة هرفة وزيد مادة للمزاح اليومي في مجلس شاربي القهوة حيث فيما أنا ادخل كنت اسمعهم يقولون: أهلا يا خليل لكن أين عمك زيد اليوم.. زيد زعلان .. أو مكتئب، انه يضطجع بهذا المزاج هاجعا بشكل عنيد طوال اليوم في البيت - في بلاد الشمس الرجال يقضون حزنهم نياما. لكن أخبرنا هل ضُربت هرفة ؟ ما الأخبار اليوم – خليل هل تحب عمك قال واحد لا يحبه: زيد ليس رجلا من يضرب زوجته. كانت آثار عصا زيد باقية في روحها الصغيرة العنيدة، وفي محط الرحال الثاني عند ما بنت الحجير على عجل وسار زيد إلى المجلس ، فرت هرفة تاركة كل شيء وعادت مغتاظة إلى البادية. أمسك بدوي تقي من منزلنا كأنه من الشهب يديها الصغيرتين للحظة متوسلا إليها أن تعود إلى رشدها، لكن كونها ابنة شيخ فهي لا تمسك وأفلتت منه بتبرم. هكذا يكون العلاج العلني لزوجة بدوية ساخطة بإظهار نفسها مضربة عن زوجها، ومستعدة لهجر عش الزوجية وأسرته، جاعلة إياه موضع احتقار عام لأنه لن يطردها، وهناك لحق بهرفة حالما سمع الأنباء قريبها من جهة أمها الذي يشبه هرفة كما لو كان أخاها. كانت تركض مثل نعامة لوحدها في الصحراء المقفرة. مرت ساعة قبل أن يعيدها إلينا، وتركها مرة أخرى محزنة عند خيمتها. قال: (ها خليل) ماذا ستعطيني الآن وقد جلبت خالتك التي تسكب لك اللبن والماء وهو يريني قطلسة (سيفه) والله لقد جلبتها بالسيف. تردد زيد المستاء في ذلك الوقت لبعض الليالي إلى حجيرة زوجته الثانية، وهرفة الغيور غير متحملة هذه المرأة يوما آخر حتى في حضور الغرباء ضيوف زيد. فرت بضغينة قلبها من الخيمة المنصوبة حديثا عند ما ترجل الناس عند المنزل، جلس زيد مثل رجل محزون يتبعها بنظراته فقط لكنه لا يمنعها. ان للزوجة البدوية الهاربة الحرية في الهرب إلى أي مكان تريده، إنها طليقة كما الصحراء، لا يوجد أحد بمقدوره أن يحتجزها، حيّت هرفة أهل أمها وجلست وكلها تنهدات في حجيرة خالتها وفي أي بيت تلتجئ إليه الزوجة الهاربة لا يجوز لزوجها الشرعي أن يمارس حقه الشرعي ليستعيد حصته فيها. انصرف الغرباء، وجلس زيد عند حجيرته المهجورة الآن في شرود طويل، لكن إظهار أي امتعاض قوي بسبب امرأة فقط، إنما كان دليل تنشئة رديئة وغير رجولية. تمدد على الرمل لينام تمضية لأساه، وهجع برأسه في الشمس الحارقة. البدو يؤدون الشعائر الدينية مراعاة لهذا اللطف والتجمل في الحياة المنزلية(سلام الله) هو في تلك البقعة من البركة الكبيرة والرهيبة التي تظللها حجيرة كل راع فقير. بعد وقت قصير هززته وقلت له: ليس جيدا أن تنام هكذا وتتخدر في الشمس، بعدئذ مضينا معا نلتمس القهوة في المجلس، حيث كان بعض الخبثاء يبتسمون لحزنه ونظراته المشوشة الجديدة. كان زيد اشتكى بصوته المتهدج آنذاك أنه لم يعد يمتلك أسرة الا إذا كان خليل ضيفهم سوف يعيد هرفة إلى البيت. كل خبر ينتشر فورا على نطاق واسع في كل الخيام المفتوحة ولا يوجد حكاية تافهة لا تركب على الألسنة خفيفة كأوراق الشجر لتزجيه ساعات الفراغ. ( ربما نعود لاحقا إلى قصة رجوع هرفة )