عندما تهون الأمة أية أمة وتضعف فإن الضعف لا يسيطر على بعض أجزائها فحسب بل يشمل كل أجزائها.. فتظل تعاني من الهشاشة الاقتصادية، والهشاشة السياسية، والهشاشة الفكرية، والهشاشة العلمية، والهشاشة الثقافية.. حتى في الفن والغناء. فمظاهر الانحدار تتجلى بكل ألوانها في نسيج الأمة فتعاني من كل شيء.. فيظهر التهابط في ذوقها الفني. وليس أكثر انحطاطاً، وهواناً من أن يسيطر الجهلة، والأميون، على منافذ ومنابر الثقافة في الوطن العربي، وأن يصبح لهم صوت مسموع.. بل أن يعلو صوتهم على أصوات المبدعين وذوي المواهب الأصيلة..!! ودائماً، دائماً يعلو الزيف، وتعلو الرقاعة، أو الفوضى في ظل الضعف العام، لأن حالة القوة هي حالة استعلاء وعنفوان.. هي حالة طرد الأمراض والطفيليات، والأوبئة عن الجسد الثقافي ليظل نقياً سليماً متعافياً صلباً.. ولكن في حالة المرض تسيطر تلك الطفيليات والأوبئة ويصبح لها الأمر والنهي في سلامة الجسد الثقافي فيظل جسداً منخوراً عاجزاً عن المقاومة والدفاع.. ويظهر السطو المسلح بكل أشكال وأدوات الجهل والأمية على المواقع والميادين الثقافية..!! أقرأ بألم ونفور تلك التصريحات المزرية «لزرازير» الأمية عن اللغة العربية الفصيحة حيث تُرمى بالقصور وعدم الارتقاء في التعبير عن هموم الفرد والأمة. كما يسمونها بالجمود، وعدم مواكبة روح العصر المتسمة بالتسارع والتغيير والتسامح.. وأن اللغة الأمية أو العامية أو المحكية كما يحلو لهم أن يسموها هي الكفيلة بالقيام بهذه المهمة.. وأن ما نسميه نحن بلغة الضاد هي من مخلفات الماضي بل هي لغة التحجر والتقعر والتعقيد والمعقدين..!! وينجر بعض المثقفين إلى الدخول في المهزلة مع هؤلاء في مناظرات لا تدل على عمق المأساة فحسب.. بل تدل أيضاً على انتفاخ الحالة الثقافية بأوبئة الجهل.. وعلو شأن أولئك السطحيين والسذج، والصغار الذين خلا لهم الجو فباضوا وفرّخوا، ودرجوا، زرازير توهمت أنها صارت صقوراً، وعقباناً.. و: إن الزرازير لما طار طائرها توهمت أنها صارت شواهينا وفي الظلمة دائماً تنشط صراصير الليل.. شيء مزر ومحزن أن «يتنافخ» الرعاع والسوقة ويفتلوا شواربهم في وجه الفصحى.. لم أسمع ولم أر أمة تحترم عقلها الثقافي تعطي مجالاً للرعاع والأميين لكي يتدخلوا في شأن لغتها وحضارتها وأدبها. ولم أر أمة تفسح المجال بهذا الشكل المنفلت للعاجزين وقصار الموهبة في أن يقتربوا من حرمة اللغة السليمة كما هي الحال.. إلا عندما تدخل الأمة في عصر الانحطاط الثقافي بكل أشكاله وأبعاده.. أليس من سوء الطالع أن تروج سوق الجهالة والأمية، وتكسد سوق الإبداع..؟! أليس من نكد دنيا الثقافة أن تموت عبقرية اللغة وأن يموت تفوقها لتحل محلها لغة الهجنة والعياء المنفلتة من كل قيد أو ضابط، أو قانون.. فنقرأ على صفحات الجرائد ونسمع في القنوات أميات متداخلة غوغائية سقيمة لا تنبئ إلا عن كارثة ثقافية تتماشى مع كوارث التمزيق والتفكيك السياسي الذي نعيشه..!! * صحيح أن اللغة لابد أن تتطور، وأن تتغير وفق معطيات الحياة ونمطها الحضاري، وصحيح أن اللغة يجب أن تنعتق من دائرة الجمود إلى دوائر أكثر رحابة وأوسع فضاء، ولكن ليس بالانفلات وتهشيم قانونها.. ليس بالعبثية والفوضوية واللامسؤولية. فالبنيان اللغوي والنظام اللغوي لا يمكن أن يقوض باللغة السوقية التي يختلط فيها الحابل بالنابل وتتدافع فيها كل المجاري الباطنة فيطفح وجه الثقافة أذى وجهلاً، وتفاهة..! لا فإن للثقافة هيبة وحمى لا يدخله إلا المؤهلون. وللغة حمى وحرمة لا يخوض فيها إلا المثقفون والمبدعون والقادرون.. أما الأدعياء والأميون فهؤلاء لهم ثقافة خاصة بهم تعبّر عن مقدرتهم وإمكاناتهم.. يجب أن تكون ضيقة ومحدودة، ثقافة تعكس ضعف إمكاناتهم وقدراتهم وعدم رقيهم الثقافي واللغوي وقصورهم عن استيعاب حركة اللغة الشاملة التي تعبر عن ضمير الأمة ولا تعبر عن لهجة أمية إقليمية ضيقة، تلك اللهجة يجب ألا يعلو صوتها على صوت الثقافة الأصيلة.. ولا لغة الأمة الرحبة.. وإلا فإننا سنصحو يوماً على ثقافة مريضة مثقلة بكل العاهات، والأوجاع.. ثقافة شبيهة بحاوية يفوح من داخلها ما يزكم الأنوف..