قدر الثقافة أنها تحيا بالأشخاص الاستثنائيين وأنها قد تذبل أو تتعثر (بعض تجلياتها) إذا انحسرت سطوة الكاريزما التي يتمايز بها أولئك الاستثنائيون عن غيرهم. وإذا كنا نتفق على أن هناك تباينًا متسعًا غير منظور في الظاهرة الثقافية بوصفها تجليًا لطبيعة العقل الاجتماعي الذي يتعدد هو الآخر في منازل ثقافية متفاوتة، فإننا سنكون بحاجة إلى تكريس ظاهرتنا الثقافية في الأوج أو الذروة الثقافية، أي أننا سنكون بحاجة إلى تكريس صفة مخصوصة لعقلنا الاجتماعي الغالب. والتظاهرات الثقافية أو المهرجانات تفعل هذا على وجه التحديد، وعليه فإنه من غير المقبول إذا فهمنا هذا أن نتصور هذه المهرجانات شيئًا فضوليًا أو عابرًا. هذا التصور أو هذا الفهم هو في الحقيقة تصور مأزوم قدر ما هو فهم سلبي نكوصي اتهامي، ولذلك كان يتردد في بدايات الاهتمام بإحياء سوق عكاظ أننا إنما نحيي سوقًا جاهليًا وننفخ في رماده. هكذا تتخاصم منازل العقل الاجتماعي، وأنا أقول: إن هذا العقل على تفاوته جذرٌ للظاهرة الثقافية، وهي متعددة بتعدده، وقد يتخاصم هذا التعدد في جدل ناكص غير ثقافي، أي أن الظاهرة الثقافية تأكل نفسها لتتحول إلى ظاهرة اجتماعية ضد ثقافية، وهذا التخاصم قد يعطلها لترتد إلى صفتها العامية، لا يكون هناك أي فرصة للتمييز الثقافي إلا إذا كان هناك عقل حاضن للفكرة الممايزة في الشخصية الثقافية، والذي كان يفعله الأمير خالد الفيصل أنه كان يكرس لسطوة الثقافة واللغة في سوق عكاظ، ومع أن مهرجان سوق عكاظ هذا كان منفتحًا في الفترة الأخيرة على ثقافتنا المهنية (في إبداعات الحرفيين) وهي ميزة ذات قيمة إنسانية قبل أن تكون ثقافية، إلا أننا لن نعدم الوعي بكونه حاضنًا كاشفًا مجليًا لحضارة اللغة، وهو في الأصل كان سوقًا لغويًا بوصف العقل العربي الجاهلي (الحقبة التاريخية) الذي كان يعكظ فيه عقلًا متشابهًا. لم تكن هناك تفاوتات كبيرة في كفاءة ذلك العقل، وهذا يعني أن تعدد المنازل الثقافية التي تعد مثلبة من مثالب عقلنا العربي الراهن، أنها صفة شبه منعدمة حين ذاك. هذا يعني أن كفاءة العقل العربي الأول كانت في قوة لغوية واحدة مستقرة غير متراجعة، ثم يكون بعد ذلك أن ثقافة العكاظيين المهنية الحرفية -وهي مجرد منتج محدود في ذلك الوقت ثقافة مضافة- زيادة في صفة العقل، فهو عقل سابغ الملكات اللغوية ابتداءً ثم هو عقل مهني حرفي تاليًا. البيئة العربية كانت تصنع العقل اللغوي باعتباره ذروة ثقافية كأنها تنسخ آلة لغوية واحدة، حضارة اللغة إذا صح التعبير كانت تتناسخها البيئة تناسخًا؛ لأنها بيئة لغة بكر متماسكة ليست متشعثة في تفاوت كفاءة العقل الاجتماعي. الذي أريد قوله: إننا حين نتحدث عن سوق عكاظ القديم، لا ينبغي أن نغفل عن ميزة التماثل، فنحن لو كان في وسعنا أن نقيس بميزان ثقافي -على سبيل الفرض- ثقل العقل العكاظي الأول، لكان في وسعنا أن نلاحظ أنه غير متعدد الصفة ولا متفاوت القوة. إنها عقول ذات ثقل متساوٍ، والذي يعنيه هذا في المحصلة أن سوق عكاظ القديم كان قطعة من الكيان الاجتماعي كما هو قطعة من الكيان اللغوي، فهو نموذج حي مطابق لكيانٍ اجتماعي وكيان لغوي لا يتعدد قدر ما يتماثل، أي أن تعدده تعدد ثراء وصور متفاوتة لا تعدد ضعف ومنازل ثقافية متراتبة بشكل هرمي، هذه ميزة قوة عبقرية، قوة العقل تتماثل، حضارته اللغوية تتعادل، تعادل بعضها، فيما النشاط اللغوي كما هو الاجتماعي (الحرفي) يتعدد. إن النابغة الذي كان يفاضل بين صور النشاط اللغوي (قصائد الشعراء المتعاكظين المتبارزين) ما كان في ظني صاحب عقل لغوي أكثر كفاءة من أي عربي، كان يذرع سوق عكاظ القديم في جبته أو ردائه. هذا يعني أيضًا أن سوق عكاظ القديم كان كله مكتظًا بأمثال النابغة وأنداده، إن لم يكن من هو ألمع عقلًا لغويًا من النابغة. كان الفارق -ربما- في الوجاهة الاجتماعية وهي ليست كفاءة عقل لغوي قدر ما هي قابلية شخصية، فالنابغة الذي كان يحكم في قصائد الشعراء كان يتصدى لعبء ثقافي ينزاح عن كاهل غيره، وكان في وسع غيره أن يفعل. ربما نحن بحاجة -اليوم- إلى المقارنة بين البصمة الذهنية لعقل النابغة اللغوي والبصمة الذهنية للعقل اللغوي للجنة سوق عكاظ التي تحكم قصائد الشعراء في سوق عكاظ -اليوم-، لكنها مسألة بحاجة إلى نظر وإلى تتبع للمادة الشعرية التي تتسابق الآن وتسابقت من قبل. سيتبين لنا من خلال هذا إلى أي مدى انحسر أو تراجع عقلنا اللغوي النخبوي اليوم بطبيعة الحال، فيما هو لم يكن نخبويًا على سبيل التمييز في زمن العكاظيين الأول؛ لأنه كان شعبويًا نخبويًا متماثلًا على وجه التحديد. هذا في ظني سينفض الغشاوة عن وعينا اللغوي بأنفسنا إذا ظهر لنا أن عقلنا اللغوي النخبوي اليوم ربما يكون أقل كفاءة وعبقرية لغوية من العقل النخبوي العكاظي الأول (لم يكن نخبويًا في الحقيقة لأنها عقول لغوية كبيرة متناطحة بالسليقة لا بالصناعة)، وأنا كنت أرى ولا أزال أن من أكبر الآفات التي أصابت عقلنا اللغوي أنه غرق في الأمية اللغوية حتى تحولت أميته إلى أزمة تاريخية، والوجه الآخر لهذه الأزمة أن صناعة العقل اللغوي الباذخ متعذرة أو شديدة العسر في أقل الأحوال، ونحن نتوهم أننا يمكن أن نصنعه بالتعليم أو التلقين أو الحشو، وهو خطأ -إذا تعذرت الموهبة-؛ لأننا لا نعي أنه استنساخ لنشاط اللغة الاجتماعي قبل أن يكون تأليفًا تعليميًا. العقل اللغوي حين يتم تأليفه يكون ضعيفًا مهزوزًا محاكيًا غير أصيل، إلا ما ندر من العقل اللغوي الموهوب المفارق. والذي يحسن بنا أن نحول سوق عكاظ اليوم إلى كاشف وحاضن أيضًا لهذه العقول اللغوية الموهوبة المفارقة، ولقد كان من نباهة وقوة الحس اللغوي -ليس النحوي بالضرورة- عند الأمير خالد الفيصل أن شع في عقله الوعي بمعنى سوق عكاظ فأحياه وأسبغ عليه ظل وجاهته الثقافية قبل وجاهته الاجتماعية، وأنا أريد أن أنبه إلى أن الذكاء الشعري ليس مشروطًا ليتجلى بنوع الخامة اللغوية (خالد الفيصل مثالًا)، ولذلك فكثير من القصائد النبطية أعمق شعرية من القصائد الفصيحة، غير أن هؤلاء ذوي الذكاء الشعري هم الأشد شبهًا بالعكاظيين الأوائل، بالعقل النخبوي العكاظي الأول، وقد تكون انحسرت عنهم اللغة الفصيحة لضعف الاهتمام، لا ضعف الملكات أو الإمكان، وضعف الاهتمام هذا هو من مظاهر الأزمة التي أشرت إليها قبل قليل، أزمة اللغة في التاريخ الاجتماعي أنها تغرق وتتشعث في التاريخ الاجتماعي للمتحدثين بها، كل اللغات تقع في هذا المأزق بغير تفاوت على الإطلاق، غير أن لغة سوق عكاظ الأول كانت هي اللغة العذراء التي ما طمثتها عجمة، وأنا أزعم أن الأمير خالد الفيصل حين انقدح زناد عقله بفكرة إحياء سوق عكاظ بوصفه سوقًا لغويًا في الحقيقة، إنما كان يتوق (الأمير خالد) إلى إيقاظ عقلنا اللغوي المأزوم الضعيف ليدرك ضعفه وأزمته وينتفض عليها، لكي يصنع بالمراس اللغوي وتكرار السماع لغته العذراء الناصعة من جديد، حين يعي فداحة أميته اللغوية، عقلنا اللغوي الباذخ الآن وقد قلت إنه استثناء، ينبغي أن يُكرس في مثل تظاهرة سوق عكاظ السنوية بكثافة إعلامية غير متراجعة ولا منحسرة. وأنا أقترح على سمو الأمير ألا ينحسر ظله عن مهرجان سوق عكاظ، الذي أراه أن يُصار إلى تأسيس هيئة ثقافية عليا لسوق عكاظ -هيئة مستقلة اعتبارية- يكون في مجلس هيئتها الأعلى سمو الأمير خالد وسمو الأمير مشعل بن عبدالله وأعضاء لجنة السوق، ويكون من همّ هذه الهيئة ألا يندثر هذا المهرجان الثقافي الكبير أو يذبل، وأن يُستقطب له رعاة إعلاميون من القنوات الفضائية إلى جوار قناتنا الثقافية، وأن تؤسس تقنيات ترويجية دعائية للنشاط الثقافي للسوق بالقدر الذي يجعله يتحول إلى نشاط لغة اجتماعي، كما هي الرياضة نشاط رياضي اجتماعي اليوم. هذا ممكن حين نحول نشاط سوق عكاظ إلى مادة إعلامية معتبرة أولى، وحين تتحول فعالياته إلى نقاش ومطارحات إعلامية تفور بها قنواتنا الفضائية وبشكل مكثف ثري دائم متتابع، أي أن تتحول الثقافة وفي ذروتها جماليات اللغة إلى مادة إعلامية متكررة وأن يُبسط فيها الحديث وألا يُنظر إليها على أنها فضول أو ثقافة تاريخية. متى يطرب العربي لقول النابغة: نظرتْ بمقلة شادنٍ مترببٍ أحوى أحَمِّ المقلتين مُقلَّدِ والنظم في سِلكٍ يزينُ نحرها ذهبٌ توقد كالشهاب الموقَدِ صفراءُ كالسّيراء أُكمل خلْقُها كالغصن في غُلَوائه المتأودِ والبطن ذو عُكَنٍ لطيفٌ طيُّهُ والإتْبُ تنفجُهُ بثدي مُقْعَدِ العربي الأول كان يطرب لهذا ويعيه أشد الوعي، ومن مهمة سوق عكاظ اليوم أن يستنبت عقولًا لغوية مثل هذا العقل الذي كان نخبويًا حقًا. عقلنا اللغوي بحاجة إلى طرق ثقافي إعلامي يعيد صياغته، ومن مهمة سوق عكاظ أن يفعل هذا.