سيكون الحديث اليوم عن مشروع لتدوين التراث الشعبي صدر منه الكتاب الأول وهو «ألوان الحماسة والمناسبات» للدكتور حامد بن محمد الأحمدي الحربي، تعرض فيه للتعريف بالعرضة والرجز والحداء والزومال والحرابي وغيره مما ينشد ويغنى به من الشعر في وسط الحجاز. والمؤلف دكتور في العلوم والهندسة ولكنه من عشاق الأدب والبحث في التراث، وعهدنا أبرز الشعراء والأدباء من أبرز الأطباء والمهندسين مثل إبراهيم ناجي وعلي محمود طه والأسواني وغيرهم. لقد كتب كثيرون عن الموروث الشعبي ولكن أكثرهم لم يحرص حرص المؤلف على التوثيق والاعتماد في مؤلفه على كثير من الرواة وذكرهم في كتابه الذي حدد منطقة دراسته وعرف كل فن من هذه الفنون تعريفا مصحوباً بنماذج شعرية ووعداً بطرحها وفق ألحانها التي تنشد أو تغنى بها. يعرف التراث الشعبي بأنه «معارف الماضي، وحكمته المتوازنة، والصورة الصادقة لنبض مجتمعاته، وأحد مرتكزات اللحمة الوطنية. لذلك فإن توثيق التراث الشعبي واجب وطني، ويعد أمرا مهماً إذا ما وظف في تعزيز معرفة الأجيال بتراث أسلافهم: ويضيف: «إن توثيق موروثات المجتمعات توثيقاً منهجيا.. سيشكل جسوراً من الروابط المتينة بين أبناء الأمة، استناداً إلى ما يجمعه من قيم ومعارف وتصورات وبما يرسخ وحدتهم الثقافية». وقد حدد منطقة البحث فيما بين مكةالمكرمة والمدينة المنورة في الزمن السابق لزمننا قبل أن تتسع اهتمامات الناس وتتطور مشاغلهم وتتشعب موارد الثقافة، ولما يزل من الموروث الشعبي ما يدل على وجوده مزدهراً من قبل، واحتفظ عشاقه بنزر يسير من معالمه أدركه البلى واختلاف الروايات. مقدمة لا تتجاوز الثلاث صفحات والنصف تاركا تقديم المادة للتعريفات بها، ومكتفيا بإشارة إلى مقولات الباحثين في هذا العلم في مدخل إلى علم التراث الشعبي، ومقدمات موجزة تفي بأغراضها فقد لا تعني كثيراً من الناس رأى المؤلف إيرادها إثراء هذا الموضوع بما لا يثقل على القارئ، كما عرف بعض المفردات والصناعات والقيم الاجتماعية والأدبية تعريفا موجزاً، مزوداً بالصور المعينة على الفهم، والتقاليد المصاحبة للمناسبات وأداء الفنون. تفصيلات متقنة ومركزة على قدر الحاجة العلمية والفنية والتوثيقية ومتطلبات بحث واسع اختار له المؤلف التقديم وفق تقاليد العصر السالب للوقت والمتعة والأناة. ولما كان تركيز الكتاب على الفنون الغنائية والأناشيد ومايثريها من قيم في منطقة شهدت حراكا اجتماعيا واقتصاديا ودينيا أثرى ثقافتها، وبدورها أثرت سائر وسط الجزيرة العربية وبخاصة في مجال الفنون، فمنذ رحلة الشتاء والصيف والقوافل بين اليمن والشام ومصر إلى اليوم وهذه المنطقة مسار العابرين والرحل وموانئ تجارية وحربية لما يزل أثرها بارزا في موروث المنطقة فالطبول الافريقية والأوتار العربية والناي البدوي كلها تحمل هوية بلاد منتجة لأدواتها. أول ما أشار إليه المؤلف فن العرضات وهو فن قديم من فنون المناسبات والحرب، فيه حماس يليق بالمناسبة وأصحابها والمشاركين فيها، رمزاً للتواصل حينا وإذكاء للحماس حينا آخر ولعل المؤلف دعاه في اسم مؤلفه وبداية موضوعاته تمريرا لموضوعات الكتاب الأخرى. ومن الأشعار الحماسية نلمس تنوع الأوزان ومجالات الفخر بالسلاح والوفاء والكرم وغيرها من القيم التي تعتز بها القبائل والفضائل التي تمجد بها يظهر ذلك في البدع والرد وهذه المجاملات تؤسس للفضائل وتدعو إليها. وثاني الموضوعات هي البيشانة وهي افتتاح المناسبات الاجتماعية كالاعداد للحرب وبعد الانتصار وفي مناسبات الختان والزواج والحج والزيارة، وهي مقدمة الاحتفال ينشدها من يحسن إلقاءها واختيار المناسب لها من الأبيات، وتتميز المناسبات السعيدة برفع جريدة خضراء تحمل شعار المناسبة فإذا كان للحج علق بها شريطة حمراء رمزاً للهدي والنحر، وإن كانت للزيارة علق بها شريطة خضراء رمزاً للقبب الخضر في المسجد النبوي وترفع الراية لمن حج أو زار للمرة الأولى، أما البيشانة الحربية فعند التجمع والتحرك للمواجهة. وعلى مشارف المعركة كما يقول المؤلف. وبداية البيشانة: يا ساعتنا يا ساعة الرحمن عسى ساعتنا في ابرك الساعات ويصاحبها رماية بالبنادق (بارود دون رصاص)، كما يصاحبها ترديد مناسب من الجمهور الحاضر، ولم يسرف المؤلف في التوضيح والتفصيل ففي بيشانة الحج والزيارة يضاف: يا ام الوليد الصغيّر ابشري بسلامته الورد والريحان في طرف عمامته وان كان زواجاً أو ختانا أو حماسة يضاف ما أورد المؤلف: تعلق يا فتى وان كنت طالب تعلق في فهد والاّ في سدا في سدا ماتمثنته الثعالب ولما حرت في غيرك تقدَّا وهي أبيات كثيرة تحمل معايير الرجولة وحسن التصرف في المواقف. أبيات تربوية من نتاج البيئة. ورغم أن معظم الألوان التي أوردها المؤلف من ألوان الحماسة فلا يؤديها إلا الرجال ما عدا الخبيتي فإن له فرقا من النساء يؤدينه في الأفراح بين تجمعات النساء، ومهما كانت بعض الألوان هذه حماسية إلا أنها لا تخلو من الغزل، مفردة يلذ سماعها شعراً وغناء، وثتير في الشداة والمتلقين ما يجعل الملعبة تنتفض ويشيع فيها النشاط والحيوية. ولون زيد لون رجولي إلا أن مسماه رمز للمرأة الجميلة والحبيبة وقد قيل: يا اهل اليسيرة لفاكم زيد يا اهل التراحيب فوزوا له تراه يسوى قرايا زبيد ووادي جهينة على طوله وقولهم: زيد قال لي سلام وقلت له يا هلا واحترف بدلة ما اعرف صْفاتها ريحة الهيل في الفنجان يوم امتلا مثل ريحة سوَيْقة يوم عجاتها والرمزية للمرأة بزيد احتراماً وتقدير وحفظاً لئلا يستخدم الاسم الحقيقي فيتحرج من ذلك ذوو الشأن فيحدث النزاع. ولما كان لون زيد يتألف من أغصان أو ألحان لكل منها بدع أو نقلة وكسرة عند الانتقال إلى لحن آخر، فالكسرة تعني اللازمة التي تفصل بين المقاطع وليست الكسرة المعروفة في الشعر، وتعني كسرة هنا علامة بانتهاء لحن واستقبال آخر. نعود إلى زيد الرمز ومثله الظبي والريم والقمرى والحمام وثلاب كلها رموز للمرأة ومن ذلك قولهم في لون زيد: يا ظبي وَشْ جفَّلْك يا مال النشب جفّلني القناص ورياح الأثب وقولهم: قمر غاب يا ذيب يا ساري شفت ثلاب والليل قماري وقولهم: يا مرحبا في مرحبا يا مرحبا ترحيبة يا زيد وان بان اللزوم وقولهم: عصراً رماني زين من راس روشان وانا غريب الدار ما لي جدا فيه وقولهم: راقت معاني زيد ناثر جعوده عصراً مضى يا ليت ربي يعوده ومهما أوردنا من أمثلة فإنها لا تغني عن قراءة الكتاب والاستمتاع بما به من شواهد شعرية ذات صور مبهرة. بقي أن نقول إن زيد لون غنائي راقص أكسبه الحماسة ترديد أبيات حماسية ومشاركة البارود بين فقراته، وأن الأبيات التي تردد إنما هي مرويات منها المعروف شاعره ومنها المجهول، ولذلك نجدها مرة في مكة مثل: ساري من المعلاة أبغى سويقة سيدي سها في النوم ربي يهنيه لقد سلب النوم الوفاء بالوعد، ولا غضاضة في ذلك طالما فيه راحة للسِّيد وهي الحبيبة. وقولهم: يا بندر الطايف عسى لك بردة ويرد لك من بعد حال مضى لك وهذا اللون عندما يحصل الانسجام يتحول الشعر المنقول إلى إبداع وحوار بين الشعراء، وهذا من متع هذا اللون التراثي. ختاماً ليس من السهل أن تبلغ مدى من الدراسة مثل ما أبدع المؤلف دون أن تعتمد على فريق عمل بحثي متخصص، فقد ذهب أهل هذه الفنون دون أن يلتفتوا إلى التدوين. وليس من السهل الفصل بين الأبيات الشعرية التي تغنى في الرجيعي والخبيتي وزيد والبدواني، فالشعر شيء واللحن شيء آخر، فقد يخضع المنشدون الأشعار إلى الألحان الأخرى، لا سيما وان معظم هذه الاشعار أبيات شاردة حفظتها قيمتها الشعرية من الضياع. هذا وإنا لمنتظرون إكمال ما وعد به المؤلف في هذه السلسلة من التراث وهو جدير بالوفاء وباحث حصيف. وشكراً على الاهداء، ودعوة لتزويد المؤلف بما يعينه لإكمال مشروعه. دكتور حامد الأحمدي