قصة "الرحيل" ليست دائماً من نسج خيال كاتب، وليتها كذلك!، فهناك قلوب أصابتها حمى اللا مبالاة، وسكنتها بلادة مستديمة في المشاعر، وبقي ظلمهم رافضاً الاعتراف بالمقدمات، حيث تتصاغر وتنحني أمامه الأحرف والكلمات، ويبقى الأمل بعودة الغائب حلما تهفوا إليه النفوس، محملاً ببلسم يواسي هم وهاجس وألم سنيننا العجاف.. ويضمد جراحا نزفت بتراتيل الألم حين نقرأها بتأن وعمق لنكتشف "قيمة الراحل" وألم الغياب. صداع الذاكرة في الواحدة والعشرين فاجأها الأطباء أنّ لديها كيسا في الرحم وصفوه بأنّه "ورمٌ حميد"، وقع النبأ كالصاعقة، وقرر الأطباء إجراء عملية جراحية عاجلة.. لم يرحم الطبيب حضورها بمفردها، ولم يشفق على سنها، عاجلها بقرار العملية، وأنّها مجبرة وليست مخيرة على إجرائها، لم يكن أمامها سوى الإذعان والخنوع لأمر الصديق اللدود، فصعدت مع الممرضة إلى الدور الثاني حيث التنويم، وبقيت في انتظار والدها وسرحت في توقع المجهول. السرير الأسود وأثناء الانتظار صعقها الطبيب بخبر آخر أشد وقعاً وإيلاما من سابقه، وهو أنّ حجم الكيس تجاوز قطره السبعة سنتيمترات، إلاّ أنّها وافقت على إجراء العملية، وسلمتها الطبيبة وريقات تخص المريض، وغادرت الغرفة من دون أن تطلع على ما دُون فيها؛ لسوء حالتها النفسية منذ تلقيها النبأ، وبعد أن مرت قرابة الساعة وهي مددة على السرير الأسود؛ تناولت التقرير الطبي لتتفاجأ بما دونه الطبيب: "نظراً لكبر حجم الكيس فقد يحدث للمريضة نزيف يودي بحياتها؛ لذا قد نضطر إلى استئصال الرحم بالكامل"، تصاغرت الأمور تارة، وتعاظمت أخرى، صبية في العشرين، لم يتبق على عقد قرانها سوى (11) يوماً، أي كارثة وصاعقة حلت بربيع عمرها؟.. ألقت بالتقرير أرضاً، وأخذت تجوب أنحاء الغرفة بخطى ثقيلة، عمّ السواد أرجاء المكان، كأنّها روح اليأس تنتشر، ضاقت الغرفة حتى بدت أصغر من "خرم" الإبرة. تفاصيل النهاية لم تستطع أن تصلب قوامها، فاتكأت على جدار الغرفة، تائهة بين بكاء ونحيب، وإذ بالهاتف ينقل لها الأمر الجلل؛ فخطيبها الذي وصل إلى مسامعه تقرير المستشفى عن خطيبته المريضة، اعتقد أنّها على علم بوجود الكيس في الرحم، وباحتمالية استئصاله، وأنّها أخفت بالتواطىء مع أسرتها عليه ذلك الخبر، حيث بادر على الفور بفك ارتباطه بها، وقرر مغادرة حياتها.. برد، وليل طويل، وأحداث مأساوية في غضون ساعات، تقاذفتها أمواج الكدر وجبروت الصمت، في غرفة أشبه ما تكون بكهف لا نبض فيه، تثرثر له تارة بهدوء الموتى، وأخرى بحماس الثائرين، وتنزف لليل تفاصيل النهاية. خفقان ودوار حضر ولي أمر المريضة، وناقش الحالة مع الطبيبة، تحدث مع ابنته عن حالتها الصحية، بينما لا علم لديه بعد عن ما حل بها من ظلم نصفها الآخر، إذ لم تطف حمم البراكين التي تشتعل بداخلها بعد، فقد أخفت عنه الخبر، بينما تمكن منها سبات الحواس، فلم تعد تعي ما يدور حولها، فقد غيبت المواقف كل ذلك، فمع تكالب الهموم شعرت بأن حواسها قد تعطلت، ليصيبها الخفقان، ويلحقها الدوار.. استجمعت قواها لتبكي، علَّ ذكرى التصقت في صدر المكان أن تتلاشى، ولكن هيهات، فقد تكاثر الضباب، واختفت معالم الحياة بين طيات الانفعالات المكبوتة، ما بين صدمة، ودهشة، وحزن، ورحيل فيه شؤون وشجون، فأي بؤس حلّ في هذه الليلة الحالكة كثيفة الضباب؟ الفصل الأخير سارت الأحداث كما شاء الله لها لا كما يشاءون، فلم يتم الاستئصال، ولم يتم اللقاء، وأسدل الستار.. حاول تتبع خطواتها، وعلم بنبأ خروجها من المستشفى، وبأنّ الرحم لم يتم استئصاله، ولكن هيهات لجرح الرحيل الصامت أن يندمل، رحيل بلا مقدمات، فلا المكان مناسب، ولا الزمان كذلك، وسيظل كبرياء المشاعر واحترامها يعلو على كل شيء، جرح ظل حياً ومفتوحاً لم ولن يندمل، وصدمة عنيفة أدمت قلبها الغض، أبت السنون مداواته، لازمتها آثار الصدمة سنين عديدة، وتشابه الذكور في عينها، تحتسي الأحداث بمرارة، وتعيد قراءة نفسها، حيث لم تعبر متاهات الحياة، بل لا تعرف لها طريقاً، فقد كان الراحل أكسجين العيش، والعيش من دونه صعب، بل مستحيل، والمستحيل لا يقبل، ولا يعترف بحروف التعليل. رحل ولن يعود إليك مهما كانت مشاعرك من طرف واحد رحيل بلا وداع سقط الفرح صريعاً، كفن ودفن في مقبرة اللامبالاة، ظلم فاق حدود الجراح، جراح قرأتها بتأنٍ وعمق؛ لتكتشف ماهية الراحل حين نزف بتراتيل الألم، فمن كان توأماً للروح ظلمه فاق حدود الظلم نفسه، فقد نفض غبار السكون، ورحل من دون وداع، ووداع سترفضه محطات الغياب، فقد كان محملاً بأمتعة الخذلان والجراح، هو أجاد لعبة التخفي، وهي لا تجيد اللعبة، بل تمقتها.. طعنة الغياب والعبث بالمشاعر أخطر حدث يمر في حياتنا، وحتماً سنرسم في الخيال ذكراها، ونبقيها أو تبقي نفسها حلماً يراودنا، بعد أن أضحى الحنين هذيان ورق وحبر أقلام، لتستوطن الغربة خلجات النفس، فما إن تسترخي الذاكرة من ظلم الرحيل، حتى يلسعنا لهيب الذكرى ليؤرقنا، وتظل أمواج بحارنا غاضبة، ونارنا لن تخمد شعلتها. سبات الأحاسيس فراق الظالم يزداد ألماً وحسرة حين يكون القلب مصدوماً في نفق الحب قف أيها الراحل يا من اخترت الغياب، وآثرت رحيلك بصمت من دون عذر أو أي أسباب، فجيوب الذكرى والعشرة عميقة، أعد للموجوعين أنفاسهم، فقد تجود أنفسهم بالبكاء على ظلمك، والنواح على لوعة الفقد.. قف، وتريث، وانتظر، واصطبر، أيا راحل عن بؤبؤ العين قد ينتظر المطعونين أن تكون محطتك القادمة لب قلوبهم، هم باختصار أناس جهلوا المكنون، لملم جراحهم، وأعد فلترة مشاعرك قبل أن يتحول المسار، فعندما تستفيق أحاسيسك من سباتها قد لا يدانون القرب من خل توارى عقله والقلب مقفل، واحذر أن يتم ترتيبك للجنازة الأبدية للفرح في قلوبهم، وأن تغادر أرواحهم للأبد، فحيئذ قد تبكي على الأطلال، إذ أنّ شراسة الرحيل لا ترحم، ولابد أن تتعثر بأشيائك القديمة، عندها لا تحسب أنك ستجدهم في المكان نفسه الذي تركتهم فيه ورحلت، فلن يكون لك مقام، ولا حتى ذكر، فالرحيل يشوه ثوب الود، ويقلب المفاهيم بقسوة، ونوباته قد لا يشفى منها معذبوك أبداً، ففقر المشاعر بشع، والعقل قد يلجم القلب أحياناً، لكن ريح الغياب ستكشف يوماً أن تحت الرماد تختبئ جمرات مشتعلة. دموعك أغلى من أن يفتح لها الرحيل باباً على القلب الكسير عداد المزيفين للراحلين.. قد لا يعتاد جرحاكم الحياة من دونكم، ولا يستلطفونها، إن لم يشعروا بها أصلاً، فهم يصارعون جرحاً عميقاً وحزناً مختبئاً في غياهب الصمت، وقد تكونون ملاذا لفاقديكم، داووا جرحاكم قبل أن تولي صوركم وذكراكم الأدبار، وقبل أن تأذن شمسكم بالمغيب، وقبل أن تقفل أبواب العتاب، ويرحل معكم الحنين، وتصبحوا في عداد المزيفين، قد لا تغريهم الحياة من دونكم، وقد تتركوا في القلب ندبة تحمل أمتعة ذكراكم، لا تستهينوا بالمشاعر، وسيبقى الأمل بعودتكم، محملين ببلسم تضمدون به الجراح، حلم تهفو إليه نفوسهم ما بين غفوة ويقظة، فإذا كانت الحياة مدرسة فلا نريد أن يكون الرحيل أحد فصولها.