حين وصل المهاجرون الأوائل إلى الشواطئ الشرقيةلأمريكا مات أكثر من نصفهم في أول شتاء.. كانت الأراضي الجديدة مجرد منفى لا يعرفون عنه شيئاً ولكنهم اضطروا للنزوح إليه هرباً من الصراعات الدينية والطبقية في إنجلترا وعموم أوروبا.. لم يكونوا يملكون خبرة في زراعة الأرض وطبيعة المكان وخلق إنتاج اقتصادي مستقر.. وهكذا كلما مر شتاء جديد شح الطعام وتوفي المزيد من الناس جراء الجوع والزمهرير وهجمات الهنود الحمر... واستمر الوضع بائساً في معظم المستعمرات الشرقية (حيث تشكلت نواة الولاياتالمتحدة) حتى اكتشف المستعمرون الجدد أن أراضيهم صالحه لزراعة التبغ وتصديره الى أوروبا التي تعرفت عليه للتو. وهكذا أصبحت تملك سلعة مطلوبة واقتصاداً مزدهراً وتحولت إلى مركز لصناعة التبغ في العالم (بحيث يمكن القول إنه لولا التبغ لما ظهرت أمريكا نفسها)!! وحتى يومنا هذا تلاحظ أن معظم شركات التبغ العملاقة تتركز في مدن الساحل الشرقي وليس مثلاً في مينيابلس شمالاً أو سياتل غرباً.. وصناعة التبغ مجرد مثال لمدن أمريكية تخصصت وازدهرت بفضل صناعات خاصة بها فقط.. فأمريكا دولة صناعية ضخمة ولكن مراكز الإنتاج فيها مركزة في مجموعة صغيرة من المدن متخصصة.. خذ كمثال صناعة السيارات الأمريكية التي احتلت لأكثر من مائة عام المركز الأول في قائمة الانتاج العالمي للسيارات رغم أنها لا تكاد توجد في غير مدينة "ديترويت" في ولاية ميتشغان!! أيضا الإنتاج السينمائي والفني الذي يكاد يكون محصوراً في لوس أنجلوس (وتحديداً في ضاحيتها هوليود).. وحين ترتفع شمالاً تجد مدينة سياتل التي تتركز فيها شركتان لا يمكن للعالم الاستغناء عنهما؛ بوينج لصناعة الطائرات، وميكروسوفت لبرمجيات الكمبيوتر... ورغم أن بوينج تنتج أيضاً طائرات عسكرية؛ إلا أن أعظم المقاتلات الأمريكية (F16 و F18) تصنع في مدينة واحدة فقط تدعى "سانت لويس" !! أما شركات النفط الكبرى فتتركز في مدينتين فقط هما "هيوستن" و "دالاس" الأمر الذي يفسر ذهاب معظم المبتعثين من أرامكو إلى هاتين المدينتين (علما أن الأولى تعد أيضاً مركز الاتصالات بالرحلات الفضائية التي تنطلق غالباً من ولاية فلوريدا).. أما نيويورك فسعيدة بوضعها كعاصمة للمال والأعمال وبورصة الشركات الكبرى ناهيك عن احتضانها لمخزون الذهب الأمريكي الذي يعد الأضخم على مستوى العالم.. أما بوسطن فتعد بحق "أثيناأمريكا الشمالية" وعاصمة الثقافة والفنون والجامعات الضخمة فيها (حيث يوجد فيها أكثر من 60 جامعة أشهرها وأضخمها جامعة هارفارد).. وفي المقابل تخصصت لاس فيغاس أو مدينة الخطايا في الترفية وألعاب القمار حتى أصبحت تملك مثلاً شعبياً خاصاً بها: "مايحدث في لاس فيغاس يبقى في لاس فيغاس".. وأخيراً؛ هناك الشركات المألوفة لنا في عالم الانترنت والأجهزة الذكية (مثل جوجل وتويتر وآبل واليتيوب وياهوو) التي تتركز في منطقة صغيرة خارج سان فرانسسكو تدعى وادي السيليكون وسبق أن كتبت عنها مقالاً مستقلاً بعنوان: أين توجد أكبر نسبة من الأذكياء في كل كيلومتر!؟ إذاً؛ هذه هي أمريكا.. عمالقة صغار يضمهم اتحاد كبير يدعى "الولاياتالمتحدة"!! ... وقبل أن أنسى؛ هل يخبرني أحدكم عن الحكمة من وجود معظم مؤسساتنا المدنية والعسكرية في "الرياض" حتى كادت تختنق من الازدحام.. خذ كمثال المؤسسة العامة ل(تحلية المياه المالحة)!