هذه المرّة لم تأتِ الضربة من الإرهاب ولا تنظيم «القاعدة»، كما لم تلعب الطبيعة وتقلّباتها وأعاصيرها دوراً في الضربة القاسية التي تلقّاها أخيراً أحد أحلام شركة «بوينغ» العملاقة. جاءت الضربة الساحقة من بطاريات الليثيوم، تلك التي تُستعمل في الخليوي والهواتف الذكيّة وكومبيوتر اللوح! اختلّت هذه البطاريات العادية، فوضعت «دريم لاينر» Dream Liner، وترجمتها «طائرة النقل الحُلم»، في مهب الريح. وبمثل سريان النار في حقل قشٍ جاف، سرى قرار توقّف «بوينغ 787». تملك ال «بوينغ» التي تنتمي إليها هذه الطائرة وتصنعها شركة «ماكدونيل دوغلاس»، خيوطاً قوية مع صورة الحلم الأميركي، بل تبدو أشبه بمن يؤدي رقصة فالس مع صورة أميركا في الأزمنة المعاصرة، سلماً وحرباً. ورصد كتاب «الطائرة» لمؤلّفه ديفيد باسكوي جوانب من هذا الفالس. ويصدر الكتاب قريباً عن مشروع «كلمة» للترجمة، في أبوظبي. لعل الأقرب للذاكرة في خطوات هذا الفالس هو... ضربات الإرهاب في 11/9! ونفّذت الضربة طائرات «بوينغ» مدنيّة، ما صنع مفارقة ختمت القرن العشرين: نهاية هيمنة الطيران الحربي على الحرب الجوّية، على يد طائرات مدنيّة. لعل التمازج بين المدني والحربي هو أكثر تعقيداً حاضراً في الطائرة- الروبوت، التي استُهلّت بال «بريدايتور» Predator، وهو من نوع «درون» Drone. مشهد آخر للعلاقة بين خيال أميركا و «بوينغ»؟ قصف هيروشيما وناغازاكي بالقنابل الذرية في الحرب العالمية الثانية! لن يبنى مثلها! لعل البداية في هذه العلاقة المثيرة هي تحليق طائرة نقل الركاب «بوينغ 247» Boeing 247 للمرة الأولى في سماء مدينة سياتل، في 23 شباط (فبراير) 1933. «لن تُبنى طائرات أضخم من هذه الطائرات». بتلك الكلمات، علّق عليها أحد مهندسيها، إذ التمع هيكلها الملتف والمصنوع من المعدن المقوى تحت أشعة الشمس، مُظهراً أحدث تقنيات التبسيط في هندسة الطائرة، بل شكل أشياء المستقبل كلها. عُلّقت محركات هذه الطائرة تحت الأجنحة، ووُضِع كل منها في «جندول صغير». وتآزرت هذه المعطيات لتعطي طائرة «بوينغ 247» سرعة طيران تتراوح بين 80 و114 كيلومتراً في الساعة، وهي الأعلى في طائرات نقل الركاب آنذاك. وإضافة إلى ذلك، سجلّت هذه الطائرة سبقاً في احتوائها مقوداً متحركاً للهبوط، وأداة للتحكّم بزاوية المروحة. اختزلت زمن الطيران من الساحل الشرقي للولايات المتحدة إلى نظيره الغربي، من 27 ساعة إلى 19 ساعة. بعدها، جاءت طائرة «دوغلاس دي سي 3» Douglas DC-3 (عرفت باسم «داكوتا» Dakota) التي اعتبرت أكثر الطائرات شهرة في تاريخ النقل الجوي، وحلّقت للمرة الأولى في أواخر 1935. سُميّت الطائرات على اسم دونالد دوغلاس، مؤسس هذه الشركة. ووصلت سرعتها إلى 300 كيلومتر في الساعة، وحملت 21 راكباً. استفادت الطائرة من الابتكارات الأكثر تقدّماً في التقنيات الانسيابية، إذ شُدّت الأجنحة لتنساب إلى الخلف بقوة، مع الحفاظ على استقامة حوافي الذيل، فصار الشكل العام للطائرة شبيهاً بعلاقة المعاطف، مع أقصى الإتقان في الديناميكيات الهوائية. وهكذا، زادت سرعة الطيران بقرابة 80 في المئة في أقل من خمس سنوات. بعدها صنعت «بوينغ» نفّاثة النقل الجوّي «دي سي- 8» DC-8. ووُصِفَت بأنها أرست المعايير في النقل الجوي. وحلّقت بثبات كأنها طاولة شاي تُدفع على سجادة سميكة. ولأنها عملت في المجالين الحربي والمدني، عدّلت «بوينغ» طائرة نقل حربية، هي ال «داش- 80»، فظهرت طائرة نقل الركاب «بوينغ 707». وتميّزت الأخيرة بحجمها الضخم ومحرّكاتها القوية التي أتاحت لها الطيران فوق المحيط الأطلسي من دون توقّف، حاملة 120 راكباً بسرعة تماثل سرعة قاذفة القنابل النووية. وفي ستينات القرن العشرين، عكفت شركة «بوينغ» على وضع تصميم طائراتها من نوع «747»، مع الحرص على تخفيف وزنها إلى الحدّ الأقصى. ولذا، اعتمدت بكثافة على مادة «نومكس» في الهيكل، وهي نوع من الورق المُشبّع بمواد كيمياوية غير قابلة للاحتراق. وقبل ذلك، لم تستعمل مادة «نومكس» إلا في صنع الأثاث. في أواخر العشرينات من القرن الماضي، ظهرت «بوينغ أف 4ب- 1» Boeing F4B-1، وهي مقاتلة مزدوجة الأجنحة، استخدمها الأسطول الأميركي. وبطلب من البليونير المشغوف الطيران هوارد هاغز، عُدّلت هذه الطائرة بسرعة، إذ دعمها بمبلغ 12 ألف دولار. وبذا، ظهرت طائرة «الرصاصة الفضيّة» Silver Bullet («أتش 1») المُعدّلة. وفي عام 1935، حلّق هاغز بها حول العالم، محطماً الرقم القياسي في السرعة، مُلامساً 300 كيلومتر في الساعة. وفي الفترة عينها، أنتجت «بوينغ» طائرة قاذفة عُرفَت باسم «بي 17» B 17، ولُقّبت ب «القلعة الطائرة»، خلال ثلاثينات القرن العشرين، فصارت سلاحاً أساسياً ل «القوة الثامنة في أوروبا». في 1945، أحدثت «بوينغ» قفزة في صناعة القاذفات النفّاثة، عبر إدخال الأجنحة التي تنساب إلى الخلف، في تصميمها. وفي 1948، صنعت طائرة مختلفة جذرياً، عُرِفت باسم «بي- 47 ستارتوجت» Startojet B-47. ولُقّبَت ب «صانعة السلام». وصارت عماد القصف الذريّ الأميركي. وامتازت بلونها الفضي، وأجنحتها الرفيعة كالشفرة، التي تنساب إلى الخلف بزاوية حادة تماماً، بل أنها تشبه رأس سهم ضخم. وفي الأجنحة، عُلقّت 4 غرف ضمّت 6 محركات نفّاثة من نوع «توربو» القوي، ما أعطى الطائرة قوة لتندفع بسرعة 600 ميل في الساعة (966 كيلومتراً في الساعة) عند وصولها إلى أعالي الجو. وبذا، صارت قادرة على نقل قنبلة ذريّة إلى عمق العدو. في منتصف العام عينه، صنعت «بوينغ» طائرة «داش 80» Dash 80 للنقل العسكري، بأجنحة منسابة للخلف ومحركات نفّاثة، مع إمكان إعادة تعبئتها بالوقود أثناء الطيران. وصُمّمت لتتكامل مع قاذفة «بي- 47 ستارتوجت»، التي أوحت بتصميم ال «داش 80» أصلاً! للحروب مركباتها الطائرة بدا واضحاً أن الولاياتالمتحدة تحتاج، إن أرادت ضرب أطراف الأخطبوط الياباني، لقاذفات أطول مدى. واستجابت «بوينغ» لهذه الحاجة بإنتاج طائرة «بي 29» B 29، الملقّبة ب «الحصن الخارق»: الطائرة الأضخم والأشد تعقيداً في الحرب العالمية الثانية. واحتوت على المحركات الأضخم، والرادارات الأكثر تطوّراً، والنظام الأشد تقدّماً في التحكّم بالنيران، كي تسيطر على الحمولة الأثقل والأبعد مدى، من القنابل الشديدة الانفجار. واستلزم بناؤها 12 طناً من الألومنيوم، وما يزيد على 450 كيلوغراماً من النحاس، و14 كيلومتراً من الأسلاك، و3 كيلومترات من الأنابيب. في صبيحة 6 آب (أغسطس) 1945، أقلعت 6 طائرات من نوع «بي 29» من قاعدة «تينيان» الجوية. وقاد الطيّار بول تيبتس، طائرة سمّاها «إينولا جاي»، تيّمناً باسم أمه. واحتوى جوفها المعدني على قنبلة اسمها «الصبي الصغير»، وهي قنبلة ذريّة. وجُهّزت قبل إقلاعها بربع ساعة. وقصفَت هيروشيما بالذرّة. وبعد 3 أيام، قصفت طائرة من النوع عينه ناغازاكي. في عام 1952، حلّقت قاذفة ال «ب 52» B 52 التي لُقّبت ب «الحصن الاستراتيجي»، واستمرّت ركناً للقصف الاستراتيجي الجوي في الطيران الأميركي، لما يزيد على نصف قرن. ونالت سمعة مدوّية في حرب فيتنام، خصوصاً لتنفيذها «قصف السجّاد» Carpet Bombing، بمعنى ارتصاف القنابل المتهاطلة من الطائرة، كأنها سجادة تمدّ على الأرض! وببساطة، تفوقت القاذفة الإستراتيجية «ب 52» عن سابقتها «ب 47» بعنصر السرعة. وتمتّعت بأجنحة انسيابية، تطير بثمانية محركات، تتوزع على أربعة حجيرات تحت أجنحتها. ورأت «بوينغ» أن هذا التصميم يعطي الطائرة سرعة تفوق 965 كيلومتراً في الساعة، ومدى يزيد على عشرة آلاف كيلومتر يمكن مضاعفته بسهولة بفضل تقنية تعبئة الوقود في الجو التي كانت اكتشافاً حديثاً حينها. وبذا، صُنِعَت ال «ب 52» التي تتسع لما يزيد على 9 أطنان من القنابل. وسرعان ما حملت لقب «باف»، وهو مصطلح يختصر عبارة «قاذفة سمينة وضخمة وبشعة». ويصعب على شركة «ماكدونيل دوغلاس» أن تنسى طائرة ال «أف 15» F-15 (المُلقّبة ب «النسر»)، إذ صُمّمت هذه المقاتلة المتفوّقة كي تسيطر على المجال الجوي. ويسهل فهم سرّ التفوق التقني في هذه الطائرة، انطلاقاً من ملاحظة أن تصميمها تمحوّر حول جناح واسع المساحة يتمتع بلياقة عالية في الديناميكيات الهوائية. وأُضيفَ إلى الجناح محرك قوي، تفوق قوة دفعه وزن الطائرة، ما يعني إعطاء ال «أف 15» القدرة على التسارع في الاتجاه العمودي، وهو الأقصر في الارتقاء إلى السماء. [email protected]