«إذا أردنا أن نتعرف على شعب من الشعوب ينبغي أن نلم بكل ما يشكل تراثه الشعبي» الدكتور ما فريس. بهذه العبارة قدم الباحث القدير سعد الجحدلي لكتابه «ذاكرة الديرة» الذي يتألف من مئتين وثلاثين صفحة 17 × 24 سم، ويمكن – وفق منهج الباحث – أن نطلق عليه معجماً، لاستهدافه الاسماء والكلمات المستخدمة في منطقة «ثول» بالتعريف والشواهد، مرتبة ترتيباً أبجدياً. و«ثول» بلدة معروفة منذ القدم، تقع على الشاطئ الشرقي للبحر الأحمر فيما بين جدة ورابغ، وبها جامعة الملك عبدالله، ذلك الصرح العلمي الذي يعد من أبرز التوجهات العلمية نحو مستقبل زاهر يستهدف كثيراً من القيم الثقافية والاجتماعية، بل هو نقلة نوعية نحو تطوير المسارات العلمية إلى مجال أرحب. وكانت حياة السكان في «ثول» تعتمد على المواسم، فإذا جاد موسم الربيع وروت سيول السروات فياض تهامة بادر السكان إلى الزراعة البعلية وتركوا البحر في موسم العواصف حتى إذا ما سكن خاضوا غماره للصيد والرحلات التجارية بين موانئ البحر الأحمر والمحيط الهندي. ويتبع «ثول» عديد من الجزر الجميلة يرتادها البحارة والسكان، فيها يريحون ويسرحون. وسعد الجحدلي من أبناء البلدة الموهوبين ومثقفيها المعروفين، له مؤلفات كثيرة في الشعر والأدب بعامة والأنساب والموروث الثقافي، وقد أتينا على بعض مؤلفاته في مقالات سابقة، غير أن كتابه «ذاكرة الديرة» يمثل اتجاها رائداً جدير بكل ديَّار أن يستلهم منهجه لتشكيل موسوعات محلية شاملة تستقصي ذاكرة المكان وأثر السكان فيه عبر الاحقاب لتتعرف الأجيال التالية على تأريخه وما أبدع الإنسان فيه، ولتواصل مسار التحولات التي تطرأ مع كل مرحلة. ولما كانت الأعمال الرائدة تتطلب الاشادة بالانجاز فإنها تستدعي التغاضي عن السهو إيمانا بأن أصحابها أكثر إدراكا لمواقع الخلل فيها، وأشد حرصاً على تلافيه. وما نتطلع إليه في الطبعات القادمة التوسع في التعريف والشواهد الشعرية لما فيها من متعة وتجسيد للأحداث، والبعد عن الطباعات الفاخرة التي تحمل المؤلف نفقات باهضة. ومثل هذا المؤلف يجب تعميمه وعرضه في المكتبات العامة ومكتبات الجامعات لاشاعته والاقتداء به وتطوير منهجه. وأول ما شدني من نصوص الشواهد أبيات لشاعرة قديمة من شاعرات «ثول» تقول: سلام يا ديرتي بعد النَّحَا فيها تمشّيت قالت عليك السلام الله يرد الغايبينا أنتم نحيتوا اليمن وانا عليّه قلت يا ليت يا ليت جانا المطر وانتم هينا حاضرينا الكل يزرع بلاده ثم فيها يبني البيت ويذوق من نعمة الله بعد لفّاح السنينا ويبدو أن الشاعرة عادت إلى «ثول» بعد بعدٍ عنها مع من لم يعد، وصادف عودتها هطول المطر فأخذت تتفقد الفياض التي تعمر مع المطر بالزراع فتحس بسعادة غامرة لذلك، وبحسرة أن لم يعد الغائبون لينعموا بعودة الربيع مع أهل ديرتهم، الذين أبعدهم عنها لفّاح السنين وهو شدة الجفاف في السنين العجاف. وعلاقة الإنسان بمسقط رأسه علاقة وطيدة يدركها المكان وهذا ما يتجلى في البيت الأول، والسلام رمز محبة وعلاقة وشعور بالطمأنينة والأمن عندما يطأ الواحد منا دياره، ويشعر أن كل شيء فيها يحييه.. حركة جريد النخل، أغصان الشجر نسائم البر والبحر ليونة التراب معالم المكان الطبيعية والأثرية. ولا بد أن أشير إلى أن عجز البيت الثاني ورد كما يلي: «يا ليت يوم جا المطر وأنتم هنيه حاضرينا» فأحسست فيه ثقلا ورددت الخطأ إلى الرواة أو اللهجة وترديد البيت الذي يخفي الثقل وأعدت البيت إلى ما توقعت. وهناك كسرة حوارية بين شاعر وهواه يقول الشاعر: قال الهوى الليل قلت (ابدن) ما هو السبب؟ قلت له: قنعان اما انت كبيتني عمدن واللي مضى من زمان اخوان وترجم عليّه وقال: اذهن الود من يتركه غلطان قلبٍ بلا ود با يدفن أولى له القبر والأكفان إلاّ يقع سيّدي لي حن والقلب فيما اشغله طربان وللتوضيح فإن (أبدن) هي أبداً، و(عمدن) هي عمداً. وقد ثبتناهما كما وردتا، وجاء عجز البيت الثالث «الود لا تتركه غلطان» فاستحسنا ابدال «لا» ب«من»، وكلمة «في مشغله» فيما اشغله، وذلك تناغماً مع المعنى الذي لا يظهر مع النقل الشفهي وتفضحه الكتابة الملتزمة بالنقل الشفهي. وكذلك قوله: «ام انت» في صدر البيت الثاني رددناها إلى أصلها «أمّا». وفي الأبيات عتاب وجواب وفلسفة لجفاف القلوب القاسية وليونة القلوب التي تهوى ويحق لها الحياة، أما القلوب الخالية من المودة فليس لها إلا النسيان. والود يطول الحديث في فلسفته، فإن المودة التي جعلها الله بين الزوجين (مودة ورحمة) فهي دليل على أهمية المودة لتناغم العلاقة مع متطلبات بناء الأسرة، ومع ائتلاف المجتمع الذي تسود أفراده المودة. وقد شغل الود الشعراء منذ الخليقة وما زال هاجس كل إنسان. نعود إلى الديار، فإن جمالها الذي يرتسم في أعين أبنائها قد لا يراه الآخرون، ولكن ولع أبنائها بها لا يشابهه ولع.. فأهل المناطق المرتفعة والبعيدة لا يحبون تلك السباخ ولا رطوبة البحر، وواقع الأمر أن عشق تلك الأراضي التهامية لا يدانيه عشق، ومتعها المتبادلة بين المواسم لا تماثلها متعة، ولن نلوم الشاعر الثولي الذي نحا عنها بعيداً يمناً أن يرتد طرفه إليها شاماً كل حين وبخاصة عند ما يلوح البرق شمالاً: كلما لاح برق الطرف لديت شام ديرتي العذيّة كم أهذري بها والطرف: نوء ممطر، أهذري: أحلم وأكثر من تذكرها. وفياض تهامة ومنها ثول وما حولها من الخبت جنة الشتاء والربيع، وبحرها متعة الصيف والخريف: من حمد ربي ها السنة ربّع الخبت وشاعر آخر نجع بعيداً إلى ما بعد منطقة حيس فيقول: الليلة امسيت عن داري بعيد ومن ورا حَيْس العفو لله يا ما ابعدك يا داري عليَّه ولأن «ثول» بلدة بحرية وأهلها من هواة البحر كما ذكرنا فإنهم يبحرون لصيد السمك وجمع الصدف واللؤلؤ جماعات وأفراداً، يواجهون أهوال البحر الذي داخله مفقود وخارجه مولود فإن النساء والابناء يعيشون تلك الفترة في قلق انتظاراً لعودة البحارة والذين قد لا يعود بعضهم، وعودتهم أو قفولهم تمثل فرحة وقلقا حتى يطؤوا الشاطئ، وقد تعودوا على العودة سويا حتى تشيع الفرحة في كل البلدة ويفرح كل المستقبلين على الشاطئ تقول شاعرتهم: لا واهني من شاف جوش القطيرة وشراعها يومي مع اللي يقدِّيه والقطيرة مجموعة السفن الشراعية الصغيرة تقطر في سفينة أكبر وذات أشرعة عالية تمكنها من الاسراع بالمراكب المقطورة، وقد يتجمع البحارة في سفينة القيادة فرحين بالعودة. وكان يوم مغادرتهم يوماً مشهوداً بالوداع والأماني بالتوفيق والتوصية بالمرافقين من صغار البحارة الذين هم في مرحلة التدريب. وعندما يقبل الليل يخيم على البلدة وحشة يذهبها الباقون فيها وأكثرهم من النساء يذهبنها بالتجمع والتسرية عن المشفقين على المسافرين. والناس هنا يعدون من لا يبحر كمن يتخلف عن غزو لذا لا يتخلف عن الابحار غير امرأة أو قاصر أو عاجز، ولذا توحش البلدة غب الابحار، يقول شاعر: الليلة امسى ثول قفري خلا من رود الاوناس واضحت محاجيه مضرب قوم ما فيها محاجي أي أنها خلت من الرجال وأصبحت هدفاً للغزاة، مما أثار شاعرة من ثول لترد عليه بأن مهابة رجال ثول في الحضور والغياب وإنهم لا تخلف الغربة طباعهم ورجولتهم: اللي نحوا لليمن ربعي على دلّة ونوماس يجون لو روحوا كيد العدا يا ورد شامي وربما تعني بالورد الشامي الذي يروى بالعيون والأنهار فيكون سريع الذبول لنعومته، وذاك هجاء لمن لا يقدر على مثل ما أقدم عليه أهل ثول، وربما أرادت النعت بمعنى آخر. نعود إلى مقولة الدكتور ما فريس وندقق في مضمونها وما تحرض عليه من اهتمام بالتراث الشعبي من آداب ونظم وابداعات ثقافية وغير ذلك مما يبتدع الانسان لتحسين أساليب حياته لنجد أنها مقولة تستهدف فئة منا تنكرت لموروثها وعدت المحافظة عليه يهدد لغة القرآن والذائقة الأصيلة، وحصرت التراث الأدبي حصراً على ما كتب باللغة الفصحى مغيبة بذلك إبداع سواد أعظم من السكان. ولا يلام كثير منهم ممن لا يمتلكون ملكة تذوق ذلك ولهذه الرؤية من الأثر السيئ ما يغيب التعرف علينا كما أشار الدكتور، وبذلك نصبح شعبا بلا هوية. ليوقف الابداع بالشعبي وليدرسْ تراثنا منه. شكراً للباحث القدير سعد جبر الجحدلي على هديته القيمة التي اشتملت على شرح ما يزيد على الألفي كلمة، وقد زين الكتاب بالصور الملونة المتقنة بحرية وبرية وتراثية. ومزيدا من الابداع يا سعد. سعد الجحدلي غلاف الكتاب