قدّم الشاعر والكاتب وسام الدويك كتابه عن المجلس الأعلى للثقافة "التياترجي: منير مراد"(2013)، وهو التالي لكتابه الأول في تاريخ السير الثقافية الذي كان عن شاعر الإسكندرية اليوناني "كافافي: الشاعر والمدينة" (2006). بالإضافة إلى أنه قدّم أكثر من مجموعة شعرية أطلق أولاهن بعنوان: "يرجع العاديون مكبلين بالياسمين" (1999)، وتوالت بعدها "الخروج من النهار"(2002)، والشرفات (2009)، أبيض وأسود (2011). يتكون هذا الكتاب من خمسة فصول، يتقدمها مقدمة للكتاب وضعها الكاتب محفوظ عبدالرحمن، ومقدمة نظرية للمؤلف عن مفهوم كتابة السيرة وتأريخها، ومقالة ضافية عن صعوبات البحث عن مصادر ومراجع وأرشيف منير مراد. وأما الفصول الخمسة تتوالى على النحو التالي: مطرب مصر الأول/ زكي مراد، وما حدش شاف/ منير مراد، وقرب قرب خش اتفرج/ سينما منير مراد، واد أرتيست غنائي ومونولجيست موسيقى منير مراد، والأخير أخبار وحكايات قديمة (مقتطفات صحف ومرويات شفوية). سأقول في البداية بأنه لا يكتب عن مبدع إلا مبدع مثله. يتشاركان في الإحساس والتجربة والقيمة، ويتقاطعان في المجتمع والعصر والحالة. وإذ يختار الدويك شخصية منير مراد، فهو يختار شخصية إشكالية، وهي لا تختلف عن إشكالية كافافي. فإذا كان كافافي يمثل وجهاً اسكندرياً يونانياً لشاعر مثلي عاش فترة الأربعينيات في عزلة ثقافية، ولم يعرف إلا بعد وفاته لاحقاً حيث اتخذ مكانته الثقافية بوصفه شاعراً يمثل القرن العشرين ومجتمع الإسكندرية والحب والعزلة الاختيارية. وأما منير مراد فهو ابن عائلة مصرية يهودية(4)، في الغالب هي أسرة مهاجرة من يهود السفاراديم (يهود الأندلس)، تمثلت صناعة السينما والغناء وقليلاً من التجارة. وكما عرفنا سابقاً أن والده المغني زكي مراد(1882-1952)، وأخته المغنية والممثلة ليلى مراد (1918-1997)، بالإضافة إلى أن أفراد العائلة لم يغب بعضهم عن مزاولة الغناء مثل أختيه الكبرى ملك والصغرى سميحة، وهو ما عرفناه سابقاً عند زكي والصقلي، وما لا نعرفه أن شقيقه الأكبر عمل في صناعة السينما، في التأليف والإنتاج، مثل أخيه إبراهيم. إلا أن منيراً عن كفافي، يمثل شخصية شديدة الخصوصية، ذات خصوبة إبداعية وتمكنية مهنية، بين العمل والإنتاج في استوديوهات التصوير، والعمل والإنتاج في استوديوهات التسجيل.. أي أنه يعمل أمام ووراء الكاميرا والميكروفون أيضاً، وبقدر ما كان أمراً لافتاً صار عملية تبديد مقننة لموهبته وإفراغ سريع لقدراته.. وإذا أردنا الدخول إلى شخصية منير مراد لنا أكثر من مدخل: الأول – وهو ذو بعد سوسيولوجي- لكونه ينتمي إلى الطائفة اليهودية المزراحية (المشرقية)- بعيداً عن الخرافات المؤسسة لتاريخ اليهود، مما يطلق عليه بحسب المؤرخين التوراتيين: "تاريخ الآباء والسبي البابلي والخروج من مصر"- وقريباً من نظرية عربية الديانة اليهودية كما عند كمال الصليبي وتعميقات الحفر البحثي عند فاضل الربيعي الفاصل بين الخرافات التأسيسية عند "قوم موسى" بحسب النص القرآني، والتفريق بين اليهود ديانة وبني إسرائيل قبيلة عربية، فإن الانقطاعات التاريخية تقف عند تواجد الطائفة الربانية أولى الطوائف منذ ما قبل الميلاد ثم صياغة الطائفة القرائية في هذا الشرق على يد عنان بن داوود في القرن الثامن الميلادي في بغداد العصر العربي الوسيط (تتقاطع مع تيارين فقهيين منحورين في الإسلام: علم الكلام والاعتزال)، ثم الطائفة المزراحية الأخرى وهي الطائفة السفاردية، وعلى رأسها الحاخام موسى بن ميمون الذي استقر في مصر منذ القرن الثاني عشر أي يهود الأندلس (حالها حال المهاجرين العرب المسلمين الذين عادوا) استعادت حياتها بعد طردها من الأندلس في القرن الخامس العشر، وهناك أندلسيون قهروا على المسيحية فغدوا يحملون اسم "الموريسكيين"، وهو الاسم الذي سيحرف إلى تسمية المغرب باللاتينية موروكو. بالإضافة إلى أنه استعربت هذه الأسر الموريسكية حين عودتها إلى الأراضي العربية في بلدان سواحل المتوسط سورية وفلسطين ومصر وتونسوالجزائر والمغرب كذلك في إقليم الحجاز من السعودية. وهو ما يطلق عليه "الشتات الموريسكي" عند مؤرخي تلك الفترة الزمنية الذين رأوا أنهم تحولوا إلى إثنية كجماعة بشرية لم تعد عربية ولا إسبانية أي إثنية أندلسية(أورتيث وفانسون، 2013، 416). وقد عرفت الطائفة القرائية انتشاراً في اليمن والعراق وسورية ومصر والمغرب، وفي مصر، هي ذات ثقافة عربية –يهودية تمثلت في تراثها المعنوي والمادي لعل أبرز تجليات الأسماء ذات الدلالة مثل: زكي، مراد، يعقوب، يوسف، صالحة، جميلة، نظيرة، بهيجة. ومن أبرز الأسماء في التاريخ العربي الثقافي والاجتماعي هناك: كعب الأحبار والسموأل بن عادياء ووهب بن منبه وموسى بن ميمون وابن سهل الإشبيلي.. ويعقوب صنوع، ومراد فرج، وأنور شاؤول، ونسيم سوسة، وإسرائيل ولفنسون ومراد ميخائيل وهنري كورييل ويوسف درويش ونعيم قطان وجويس منصور وجاك دريدا.. وتلتقي أسرة مراد مع مبدعين ومبدعات من أسر عربية يهودية، وليس بالضرورة أن تكون عربية فقط، فقد تكون عربية-كردية أو عربية –لحجية أو عربية- موريسكية أو عربية – أوروبية، في العراق والبحرين والكويت واليمن وسورية والجزائر. وهناك أمثلة عديدة مثل صالح وداوود عزرا الشهيرين باسميهما بالنسبة لبلدهما صالح وداود الكويتي، وسليمة باشا مراد والملحن سليم زبلي في العراق، وحسيبة مسيكة والملحن عاشر مزراحي في تونس، والشيخ العفريت وموريس المديوني في الجزائر.