تميزت الحضارة الإسلامية بتسامح ندر أن نراه في الحضارات الأخرى، فبينما كان اليهود يعيشون منبوذين في حارات اليهود أو الجيتوهات، عاش اليهود داخل الدول الإسلامية المتعاقبة في أمان مكرمين معززين. وكانت حالتهم الاقتصادية تساعدهم على طلب العلم والتقدم في صفوف المجتمع. وقد نبغ كثير من اليهود في شتى الأنشطة، فكان منهم الطبيب كموسى بن ميمون الذي كان طبيبا لدى صلاح الدين الأيوبي ومنشا الذي كان طبيب عبد الرحمن الناصر أمير الأندلس، كما نبغ في الكتابة والأدب كثير من أمثال ابن سهل الإسرائيلي الشاعر والناثر ابن النغويلة اليهودي. وفي العصر الحديث، شارك كثير من أدباء اليهود العرب في النهضة الأدبية العربية يتقدمهم الأديب المسرحي الكبير يعقوب صنوع الذي أصدر مجلة أدبية تعنى بالمسرح، وكانت له صلة ببعض كتاب النهضة في أواخر القرن التاسع عشر. وفي الفن شارك كثير من الفنانين اليهود في الفن العربي الحديث فمنهم داود حسني الملحن الكبير والمخرج توجو مزراحي (ومزراحي بالعبرية معناه مصري)، والممثلة نجوى سالم وراقية إبراهيم وغيرهم. الوجود اليهودي بيد أن ليلى مراد هي أكبر دليل على هذا الوجود اليهودي في الفن العربي الحديث. فقد ولدت من أسرة يهودية مغربية، حيث رحل والدها زكي مراد إلى مصر، واندمج داخل المجتمع المصري ونشأ مبتعدا عن الجالية اليهودية، فغضب عليه حاخام مصر لكثرة عمله في يوم السبت المقدس عندهم، وإحجامه عن دفع المال للحاخام الذي يزعم عنايته بفقراء اليهود المصريين. وكان زكي مراد محبا للموسيقى والفن فتعرف في العشرينات بمنيرة المهدية وسيد درويش وصالح عبد الحي. وتزوج مراد بيهودية أنجبت له الملحن منير وابنته ليلى التي ظهرت مخايل مستقبلها منذ الطفولة فقد جمعت بين عذوبة الصوت والجمال. ويصاب مراد بضائقة مالية فلا أحد من المطربين يقبل على ألحانه ويسمع صوت ابنته، وهي تغني فيسيل لعابه كي تكون المنقذ من حاله فيحتفي بجوهرته المكنونة فتصدح بالغناء ويعجب بصوتها الموسيقار محمد عبد الوهاب فيشجعها ويقبل عشاق فنها على روائعها الخالدة، ويصعد نجمها في زمن يزخر بالمواهب كأم كلثوم ونجاة علي وأسمهان ومحمد عبد الوهاب وصالح عبد الحي صاحب الحنجرة الذهبية. مرحلة جديدة وفي الأربعينات من القرن العشرين بدأت ليلى مراد مرحلة جديدة بدخولها السينما بقوة، وكانت تجربتها أنجح تجربة لمطربة في الأربعينيات، وقد تفوقت على تجربة أم كلثوم السينمائية ومحمد عبد الوهاب لعدة أسباب منها وجود كاتب سيناريو مميز وهو بديع خيري الذي كتب رائعته الشهيرة (غزل البنات) كما ساعدها أيضا وجود مطرب آخر معها وهو محمد فوزي. وبعد زواجها من أنور وجدي تركت الديانة اليهودية لتعتنق الإسلام، واستمرت ترسل روائعها حتى قامت ثورة 23 يوليو 1952 وهنا وقعت أكبر أزمة في حياتها وهي التهمة التي وجهت إليها أنها أرسلت شيكا بمبلغ كبير إلى دولة إسرائيل أثناء حرب 1948 وقد اختلف فيها المؤرخون، فمنهم من صدق التهمة وقال إنها كانت يهودية وإن إسلامها مشكوك فيه ومنهم من رفض التهمة وبرأها. وكاتب السطور يجزم بأن التهمة باطلة بل وأؤمن أن المكيدة من تدبير المخابرات الإسرائيلية، فقد جن جنون الكيان الصهيوني برفضها هي وأسرتها التخلي عن مصر والذهاب إلى إسرائيل كما فعل اليهود الآخرون من أمثال أسرة شيكوريل وعدس وغيرهم. وقد عانت ليلى مراد أثناء التحقيق حتى ثبتت براءتها، ويعضد رأيي أنها كانت صادقة في إسلامها أنها بقيت في مصر وذكر المحيطون بها كيف أقبلت في أخريات حياتها على العبادة والصلاة والصيام والذكر قبل أن تتوفى بسنوات. قلبي دليلي نتذكر هذه الذكريات والعرب شاهدوا أخيرا على شاشات التلفزة مسلسل «أنا قلبي دليلي» وهو باسم إحدى أغنياتها الذي رصد حياتها وتجربتها الفنية. كتب السيناريو مجدي صابر وهو كاتب اشتهر برائعته «الرجل الآخر» وهو نص مقتبس من مسرحية للكاتب الإنجليزي جان انوي. وقد كتب بعدها مسلسله التاريخي «الفنار» وبدا صنفه في الكتابة التاريخية، وقد وقع اختيار المخرج على الممثلة والمطربة السورية صفاء سلطان التي استطاعت أن تثبت وجودها في الدراما العربية وأن تقدم صورة شديدة بصاحبة الترجمة مع أن الماكيير قد فشل في إزالة الفوارق الشكلية بينها وبين ليلى مراد. أما أحمد راتب الذي أتقن دوره في تقليد شخصية نجيب الريحاني لكنه دون مستوى سمير غانم الذي قلد شخصية الريحاني، وما عليك إلا مقارنة الصوت وطريقة المشي حتى ترى دقة سمير غانم في أداء الشخصية، وهي بداية متميزة للمخرج السوري محمد زهير رجب، ومن يدري فقد نرى عشرات المسلسلات عن شخصيات فنية أخرى مثل نجاة الصغير ونجيب الريحاني وبيرم التونسي وبديع خيري وغيرهم.