منذ سنوات طويلة مضت فقدتك يا أبي، وقد كنت بالنسبة لي نبعاً من الحنان لا ينضب، كنت سندي وأملي بعد الله عز وجل، والغد المشرق الذي أعيشه بجوارك، انتابتني حينها مشاعر الحزن الممزوجة بالخوف، الخوف من أن أمضي في الحياة وحيداً بعد أن فقدت منارتي ودليلي، استجمعت أنفاسي اللاهثة مستسلماً لإرادة الله، وهممت أن أطلق لمقلتي العنان لتنساب منهما عبراتي رثاء لا يجدي معه البكاء. وتمر الأيام كئيبة عصيبة، أسير في ظلامها بلا ضوء يهديني، ويشاء الله أن يتعرض إنسان عزيز لدي إلى مرض خطير، ويتهدده الموت باشاراته التي لا تخطئها عيني الناظرين، فلم أجد من ألجأ إليه إلا الله، فمن الذي يستطيع أن يكشف الضر عن العباد إلا خالق العباد، سبحانه وتعالي، وفي غمرة حزني وخشيتي أن أفقد من أحببت، وقع نظري على صورة الملك فهد يرحمه الله، في إحدى الصحف، وكأن القدر أراد أن يكون هو منقذي، وكنت قد سمعت من الناس أنه لا يتوانى عن إغاثة الضعفاء والملهوفين، فأمسكت بقلمي، وخططت إليه بضع كلمات يائسة إلا من رحمة الله. وما هي إلا أيام معدودة ويأتيني الغوث الذي كان عبارة عن أربعة أسطر موجهة إلى مدير أكبر مستشفى متخصص في الشرق الأوسط ومقره الرياض لاستقبال مريضتي وعلاجها على نفقة هذا الرجل الكريم، وعندما وجدت اسمه وتوقيعه على الخطاب أيقنت أن رحمة ربي أبت إلا أن تعوضني بمساعدة هذا الملك الإنسان، المهيب بتواضعه، القوي بحنانه، ذي القلب الرحيم الذي كان يستوعب دون كلل عناء كل المهمومين في أي مكان في العالم. فقد ظل يعطي من جهده الكثير، حتى بعد أن بدأت تتسلل إلى جسده آلام السنين، لم يظهر لأحد من حوله ما شعر به من آلام، فقد كان اهتمامه برعاية وطنه أحب إليه من نفسه، فلقد وهب عمره لرفعته وبنائه، وخدمة أمتيه العربية والإسلامية، ولم يكن يدر بخلده ولا من حوله أنه يخسر بما يبذله من جهود ويقدمه من تضحيات يفقد بها صحته ببطء. وتعافت مريضتي من مرضها بأمر الله ثم بفضل هذا الملك الإنسان، واستمرت تحصل على الرعاية الطبية على نفقته لمدة خمس سنوات إلى أن تأكد الأطباء من استقرار حالتها ولله الحمد والمنة فهو الذي جعل شفاءها على أيدي هذا الرجل الذي لا يعرفني، فكم من حالات تقدر بالملايين أمد لها أياديه الكريمة التي ما فتئت تعطي بلا حساب ليجزيه الله بها خيراً يوم الحساب. وفي صمت كعادته، ووقار تكتسيه شخصيته، انسحب فهد السعودية من بيننا، مخلفاً مرارة فقدان الحبيب والعزيز يتجرعها أهله ومحبوه، وانتشر الخبر الحزين ليملأ أسماع الدنيا، إنها مشيئة الله، يرحمك الله يا فهد، ويسكنك فسيح جناته، فاليوم أترك دموعي الحبيسة تنساب، فبعد أن انتقلت إلى جوار ربك أدركت أنني مرة أخرى، فقدت أبي.