لعل أدب السجون – وهو من الآداب التي اهتم بها النقدة مؤخراً – قد كان تركيزه على القصائد والرسائل والروايات والكتابات التي انبعثت من السجين آناء سجنه ، وهي الحالة التي يكون فيها السجين مُرسلاً وليس مُستقبلاً . والحق بأنّ السجن حالة إنسانية تلقي بظلالها على جميع المحيطين بها ، إذ إنها مصيبة أسرية ، ونازلة شخصية ، وحدث اجتماعي . وأيضاً فإنّ السجن هو – كما الموت - فقدٌ قسري ، وغيابٌ جبري ، وانتزاعٌ مؤلم ، يأتي في حين متوقعاً ، وينزل في حين آخر مفاجئاً . وكذلك فإن السجن – عافانا الله وإياكم – شبيه بالقبر من وجه ، إذ إنّ مزار صاحبه قريبٌ على بعد ، وبعيدٌ على قُرب ، والسجين فيه أشبه بالميت في انقطاعه عن أهل الدنيا ، وعلى هذا المعنى قال صالح بن عبدالقدوس يصف حاله في سجنه : خرجْنا مِن الدُّنيا ونحنُ مِنَ أهْلِها فما نحنُ بالأحْياءِ فيها ولاَ المَوتى إذا ما أتانا مُخبرٌ عن حديثِها فرحْنا وقُلنا : جاءَ هذا مِن الدُّنيا! وعوداً على بدء ؛ فإن ثمة أدبيات كان السجن فيها محطة استقبال للإبداع الأدبي لا نقطة إرسال ، وكان السجين فيها مستهدَفاً بهذا الإبداع لا مُنشئاً له ، وذلك بما يُرسَل إليه في حبسه من أحبابه أو أعدائه على حد سواء . وقد تعددت أغراض ومقاصد المرسَلات الشعرية إلى السجناء في سجونهم ، فمنها ما كان توجعاً ومواساة ، ومنها ما يُرسل توبيخاً وزجراً ، ومنها ما قد جاء تحفيزاً وحثاً ، ومنها – وهو المتوقع – ما يكون اشتياقاً والتياعا ، وأيضاً فإن بعض هذه الرسائل الشعرية قد كان حقيقةً في إرساله واستلامه ، وبعضها الآخر كان مناجاةً للتخفيف ، وتبريداً للمصاب ، ومناداة من وراء جُدُر . من هذه القصائد التي أُرسلت إلى سجين في سجنه كانت قصيدة الفرزدق التي قد سلمها بنفسه إلى يزيد بن المهلب بعدما احتال في زيارته ، فقال متوجعاً ومواسياً لما رآه في حبسه : أبا خالدٍ ضاقتْ خراسانُ بعدَكمْ وقالَ ذَوُو الحاجاتِ أينَ يزيدُ ؟ فما قطرتْ بالشرقِ بعدكَ قطرةٌ ولا اخضرَّ بالمروينِ بعدكَ عُودُ وما لسرورٍ بعدَ عزِّكَ بَهجةٌ وما لجوادٍ بعدَ جُودِك جُودُ وعلى هذا النحو من التسلية والمواساة قد جرت قصيدة البحتري لمحمد بن يوسف في حبسه ؛ إذ أرسل له هذه الأبيات مواسياً ومعزياً ومبشراً : وما هذه الأيامُ إلاّ مَنازلٌ فمِن مَنْزِلٍ رحْبٍ إلى منزِلٍ ضَنْكِ وقدْ دهَمتْكَ الحادثاتُ وإنّما صفا الذّهبُ الإبرِيزُ قَبْلَكَ بالسّبْكِ أمَا في نبي الله يُوسفَ أُسْوَةٌ لمثِلكَ محبوسٌ عنِ الظُّلْمِ والإفْكِ أقامَ جميلَ الصّبرِ في السِّجن بُرهةً فآلَ بهِ الصّبرُ الجميلُ إلى المُلْكِ وعلى الضد من هذا فيحفظ لنا التاريخ قصيدة قد بعثها هارون الرشيد إلى يحيى البرمكي في سجنه بعدما كان هذا الأخير قد استعطفه بأبيات كتبها إليه في رقعة ، فقلب الرشيد ظهر هذه الرقعة لما قرأها ، ثم كتب عليها زاجراً وموبخاً : يا آل برمك إنكم كنتم ملوكاً عاتيه فعصيتمو وطغيتمو وكفرتمو نعمائيه هذي عقوبة من عصى من فوقه وعصانيه أجري القضاء عليكمو ما خنتموه علانيه من ترك نصح إمامكم عند الأمور الباديه ثم ختمها بقوله تعالى " وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله ، فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون " . وقد قيل بأن يحيى البرمكي لما قرأها وهو بالسجن أخذته الحمى لوقته وساعته ، وعلم حينئذ بألا خلاص ولا فكاك ! وإذا صرفنا أبصارنا تلقاء الشعر النبطي فإن أول ما يرد على الخاطر في هذا الجانب قصيدة الإمام تركي بن عبدالله آل سعود التي نظمها وأرسلها إلى ابن أخته مشاري بن عبدالرحمن ، في مصر بعد سقوط الدولة السعودية الأولى ، وهي القصيدة التي قد طارت شهرتها في الآفاق ، وعم صيتها الأرجاء ، فتناقلتها الألسن ، وحفظتها الصدور ، ودونها الورّاقون والمؤرخون ؛ لما قد حوته من فصول حكمة ، واستنهاض همة ، وصدق مشاعر ، وحرارة أشواق ، فكانت بحق أجزل قصيدة شعبية أُرسلت إلى سجين ، وقد افتتحها الإمام بقوله : طار الكرى عن موق عيني وفرَا وفزيت من نومي طرا لي طواري وابديت من جاش الحشا ما تدرَا واسهرت من حولي بكثر الهذاري خط لفاني زاد قلبي بحرا من شاكي ضيم النيا والعزاري سر ياقلم واكتب على ما تورا ازكى سلامي لابن عمي مشاري شيخ على درب الشجاعه مضرا من لابة يوم الملاقا ضواري ياما سهرنا حاكم ما يطرا واليوم دنيا ضاع فيها افتكاري اشكي لمن يبكي له الجود طرا ضرَاب هامات العدا ما يداري ياحيف يا خطوا الشجاع المضرا في مصر مملوك لحمر العتاري وقد كانت هذه الأبيات سبباً في حماسة مشاري بن عبدالرحمن لأن يتخلص من إساره ليعود إلى نجد مرة أخرى . وعلى شرط هذا المقال كانت أبيات الشاعر عبدالرحمن البواردي التى جاءت في كتاب مرويات الأمير محمد الأحمد السديري؛ إذ يقول: ياسعد يابعد حي(ن) قعد كيف تسهر وحنّا نايمين أبتهج بالفكك يا بوفهد جاك لطّام روس العايلين الوعد ياسعد حسّ الرعد من خشوم الموارت له رطين وعطفاً على ما سبق فإن للشاعرات الشعبيات حضوراً في هذا المنحى الشعوري وهذا الغرض الشعري ؛ منهن الشاعرة مشعة الرخيص الفداغي التي ضربت مثلاً رائعاً في الوفاء ، واستطاعت بشعرها وقصيدها وحُسن استعطافها أن تستنقذ هذا الفارس ، في قصة طويلة ... يخصنا منها الآن قصائدها التي أرسلتها إليه في الأسر ، ومنها قولها: سلام ياللي عند الأجناب مصيود مقفل في مغلقات الأحدة مثلك إلى جا الكود يصبر على الكود والله يعجل بالفرج عقب شدة ياللي تروي باللقا حربة العود إن قيل بالميدان يغوش ردة جيتك وقلبي منك يرعى به الدود ولا احد يلوم المبتلي بالمودة حلفت لاقعد لين ما تقلب السود ولاعنك ياذيب الفلا من صدة وكذلك أتبعت الشاعرة هذه القصيدة بأخرى أرسلتها إليه في أسره، منها هذه الأبيات: سلام ياللي عند الأجناب مسجون سلام ياللي بالمحاني مقره سلام ياللي له هل الخيل يقنون إن ثار عج الخيل وازداد شره سلام يا مروي شبا كل مسنون يا محدد دايم حديده يجره عليك قلبي بين الأضلاع مطعون وغلاك يا هادي صدا القلب حره وأخيراً فإنّ مما لا يذروه شيء من الريب أو الشك بأن لهذه الرسائل الشعرية أثرها الكبير في نفوس من قد أُرسلت إليه – سلباً أو إيجاباً – وذلك لأن المُستقبل غالباً ما يكون مشبوبَ العاطفة ، سريع التفاعل ، كثير الانتظار ؛ لخُلوه من الملهيات ، وعُطْله عن الأشغال ، وتشوقه تبدل الحال .