يأتيك ما بالغيب. مقولة متهورة لا تعني غير ذلك. ليس لها علاقة لا بالاقتصاد ولا بالتخطيط المالي كما أنها قيلت في وقت لم يكن هناك أقساط شهرية ولا فواتير تقصم ظهر الراتب آخر الشهر إن لم يكن في أوسطه. ولا ننسى بطاقات الائتمان التي تُغري بالشراء والاستهلاك لكنها تذبح بعدما تجمع شتات فواتيرها. الغريب أن هناك مقولة أخرى موازية تُكرّرْ كنصيحة بأن يُحفَظْ القرش(من الدراهم وليس سمكة القرش) القرش الأبيض لليوم الأسود وفي هذا تناقض واضح بين الصرف والتوفير. ما علينا.. كان في ذهني سؤال قبل أن أكتب هذه الفاتحة وهو هل الياباني فقير في الإجمال أو بخيل؟؟ يبدو السؤال سطحيّاً أو ساذجاً، لكنني وجدته مدخلاً لحكاية اليوم حول الصرف والتوفير. الجواب أكيد بأنه يوجد في اليابان فقراء حسب مستوى المعيشة المُرتفع هناك ولكن في الغالب الناس تعيش حياة مرفهة والفرد هناك من أعلى شعوب العالم دخلاً مادياً. مع كل هذا تجد الناس تتمسك بثقافة الاقتصاد والترشيد ونبذ التبذير أو البذخ غير المبرر. يتعلّم الطفل الياباني بأن من العيب أن يصرف ينّاً واحداً(عُملة اليابان) في غير موضعه. الياباني يُدرك أن الحصول على المال فيه مشقة ولا يأتي بالسهولة التي يحصل بها(بعض الناس) عليه لهذا فهو يحرص كل الحرص على الإنفاق بتعقّل وترشيد. ليس هذا فحسب بل المحافظة على النعمة من أساسيات سلوك الفرد هناك. حرام أن تترك حبّة أرز واحدة في طبقك..! يا الله، ماذا عن أطنان الرز واللحم والخبز التي ترمى في بلادنا؟ ماذا عن البذخ في الولائم والعزائم والحفلات؟؟ هذا الرز الذي نلقي بهِ في براميل النفايات لم نزرعه ولم نتعب في جنيهِ وتسويقه ولا حتى في حمل أكياسه من البواخر حتى تقبع في مخازننا لهذا يستهتر الجهلة بالنعمة. حين تتدفق الأموال على البعض بسهولة فإنه من المؤكّد ألاّ يعنيهم من يتعذّب أثناء سعيهِ للحصول على الطعام. أعرف رجلاً مهووساً بالصرف على كماليات لا أهمية لها مثل شراء ساعات وكبكات وخواتم وولاّعات سجائر، وهذا الهوس سبب حرمان صغاره من مصروف يومي صغير قد يبهج قلوبهم. كُثرٌ أمثال هذا الرجل في بني قومي قد أصبحوا أسرى للاستهلاك، لا يُقاومون الشره الشرائي رغم أنهم في أمس الحاجة لتلك الأموال التي صُرفتْ في غير موضعها. إنها ثقافة إدارة تفاصيل الحياة غير الموجودة أصلا.