في مبحث أعمل عليه يتناول وفيات شعراء النبط لاحظت بعض المفارقات العجيبة والحكايات الغريبة،فالشعراء وإن كانوا كسائر البشر تختلف ظروف وفياتهم زمانا ومكانا وكيفا، إلا أن سيرهم وأحداث حياتهم تلفت أنظار الناس لارتباطها بشعرهم ولكنها عند المهتمين بالأدب الشعبي عموما وتراجم الشعراء الشعبيين خصوصا من الأهمية بمكان؛ فلاشك أن معرفة تاريخ وفاة الشاعر له دلالات كبيرة في التأريخ لمراحل الشعر النبطي في الجزيرة العربية كما أن لها أهمية في التأريخ لبعض الأحداث، ولكن يجد الباحث صعوبة في تحديد غالب وفيات شعراء الجزيرة العربية قبل القرن الرابع عشر رغم محاولات بعض المؤرخين لتدوين بعضها. من هنا رأيت التطرق لبعض المفارقات في وفيات بعض الشعراء فمن الشعراء من كان موته بسبب العشق والغرام كابن عبدالرحيم أو الدجيما وهؤلاء يحتاجون إلى مبحث خاص ومن الشعراء من قتل في إحدى المعارك كشيلويح العطاوي أو فيحان بن زريبان ومن الشعراء من كان موته بسبب وباء كالطاعون كالشاعر ابن لعبون ومنهم من مات أثناء الحج كالشاعر محمد بن مناور ومنهم من مات خارج وطنه كمحمد بن بليهد أو عمير بن عفيشة ومن الشعراء من مات ولم يتزوج كالشاعر مبارك العقيلي ومنهم من مات ولم يعقب كالشاعر حمد هادي المسردي أو الشاعر بندر بن سرور وكذلك نجد من الشعراء من مات مقتولا أو مريضا أو سجينا إلى غير ذلك من الأسباب كما قال الشاعر: من لم يمت بالسيف مات بغيره تعددت الأسباب والموت واحد وسأتناول هنا وفيات ثلاثة من الشعراء موضحاً الظروف والملابسات المصاحبة لذلك: أولاً: شاعر العرضة وقتيلها: الشاعر محمد بن سليمان الصغيّر من شعراء بريدة المشهورين الذين أحبوا بريدة غاية الحب وتفانوا في الدفاع عنها، يمتاز شعرهم بالقوة والجزالة وهو من شعراء الحماسة المعدودين الذين يقفون في المراتب الأولى،أشار النقيدان في كتابه (من شعراء بريدة ) أن الصغيّر والعوني صنوان إذا ذكر أحدهما ذكر الآخر. والصغير من شعراء العرضة المتميزين في بريدة لأن قصائده الحماسية تبعث الهمم وتثير النفوس وترفع المعنويات فالعرضة سابقا كانت مرتبطة بالحرب بل هي رقصة الحرب وأهازيجها وما قامت عرضة إلا والصغير قائدها وشاعرها وهنا مبعث المفارقة ففي ليلة من ليالي سنة 1326ه وبينما كان الصغير يتقدم فرقة العرضة النجدية في بريدة بعد صلاة العشاء والجماهير مصطفة والسيوف مجردة من الأغماد والطبول تدق والرجال يتمايلون على أنغام الشعر الحماسي في عنفوان هذا المشهد انطلقت رصاصة طائشة لتصيب قائد العرضة وشاعرها في فخذه الأيسر ليسقط على الأرض ويمسح الدماء المتفجرة من فخذه على الجدار وهو يردد: هذا حقي منك يا بريدة، وداعا..وداعا..وفي أمان الله. نقل الشاعر لتلقي العلاج ولكنه لم يلبث إلا أياما انتقل بعدها إلى رحمة الله ودفن في مقبرة الصقعا الجنوبية. ثانياً: الخليفي وداعي الموت: الشاعر ماجد بن صالح الخليفي من شعراء قطر المجيدين ينتمي لأسرة معروفة بالأدب والشعر له ديوان مطبوع، عمل في الغوص كعادة أهل بلده ويذكر في قصة وفاته كما جاء في كتاب (بدائع الشعر الشعبي القطري) أنه كان في إحدى رحلات الغوص وفي أثناء إبحارهم متوجهين إلى أحد المغاصات نظم قصيدة غزلية رائعة منها هذا البيت: ونّيت من هجركم ونّة غريقٍ هوى في غبةٍ لا يرى برٍ ولا اخشابه فلما وصلوا المغاص نزل مع أصحابه إلى قاع البحر لجمع اللؤلؤ وفي المرة الثالثة أو الرابعة سمع صوتا يناديه باسمه وهو يلتقط المحار فسأل البحارة بعد أن صعد إلى سطح البحر هل دعاني أحدكم باسمي وأنا في قعر البحر قالوا لا فأراد أن يرجع إلى قاع البحر مرة أخرى فأمسك به أحد البحارة وقال لا ترجع ولكنه أرخى الحبل ونزل إلى البحر ولم يعد فاجتمعت عليه 25سفينة يبحثون عنه ولكنهم لم يجدوه وكان في فتوة شبابه عام 1323ه، ومن قصيدته التي تنبأ فيها بموته: يامن كساها الحسن ثوبٍ وغطّاها أدّي زكاة الحسن لا جاك طلابه قالت أنا مذهبي مذهب ولد حنبل أنكر زكاة صغيّر السن وافتى به قلت انجزيها يقول الشافعي قالت عز الله اني مع ذ طحت في طلابه يعطونك أهلي زكاتي قلت ياهذي يدّي زكاة الحسن من يملك أنصابه ثالثاً: ابن طريخم وقصيدة الحفل: الشاعر علي بن محمد بن طريخم شاعر من شعراء بريدة سكن البصرة وعمل في الغوص ثم سكن الكويت وانتقل منها للجبيل والدمام ليستقر أخيرا في الأحساء، وهو من الشعراء الذين طرقوا جميع أغراض الشعر واتصل بشعراء الأحساء والكويت وله قصائد مسجلة على أسطوانات بصوت عبدالله فضالة وصالح الكويتي وغيرهم أما قصة وفاته فأوردها النقيدان في كتابه (من شعراء بريدة) أنه في عام 1374ه كان الملك سعود بن عبدالعزيز في زيارة تفقدية للأحساء فجاء الشاعر إلى الحفل الذي أقيم بمناسبة الزيارة وكان قد نظم قصيدة ترحيبية ليلقيها أمام الملك فلما اقترب من مقر الحفل إذا بسيارة مسرعة تدهسه تحت عجلاتها فتوفي في الحال رحمه الله رحمة واسعة. وسيكون لنا وقفات أخرى مع المزيد من المفارقات في وفيات شعراء آخرين متمنياً أن يكون فيها عظة وعبرة للقارئ الكريم.