بادئ ذي بدء إن الحق لن يُعرف إلا عبر تأطيره بإطار من العقل الفردي المحض الناتج من فكر عميق نير خّلاّق، وإذا كان الحق لا يتبين إلا كذلك فإن الباطن هو الآخر لا يُعرف إلا بتلك الأدوات والوسائل التي عُرف بها الحق وهي التؤدة والتمحيص في بواطن الأمور وظواهرها. إذاً فلن يتبين للإنسان من كون هذا الأمر حقاً أو باطلاً إلا إذا وُضع ذلك في ميزان العقل. إن الله تعالى في وحيه الطاهر حينما أراد من كفار قريش أن يتبينوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أمرهم الله بواسطة التفكير أن يتبينوا ذلك من كونه حقاً أو باطلا إذاً فالتفكير الفردي المحض بعيدا عن المؤثرات العاطفية والتشويش هو كفيل بمعرفة الشيء ..إن العصف الذهني لن يتأتى إلا بهذه الطريقة من التفكير مثنى أو فرادى، إن معرفة الحق من الباطل تتوارى حينما يكون التفكير تفكيرا غوغائياً يختلط فيه الحابل مع النابل والغث مع السمين . ما أريد أن أنفذ إليه هو قولي إن فكر الشارع لن يكون يوماً ما مكاناً لتلاقح الأفكار النيرة بل إن الشارع ما عُرف عنه إلا أنه مكان للهرج والمرج ليس ...إلا. إن المظاهرات بشتى غاياتها وصورها التي تنبثق من الشارع لن تأتي بحصاد وثمرة يانعة أبداً ولم يعرف التاريخ ولا صُناعه أن القول في الشارع حصل منه شيء نافع، إلا إراقة دم الأبرياء وخلط الباطل بالحق حتى لا يُعرف حقاً فيؤخذ به ولا باطلاً فيُترك!! وقد قال أحد الحكماء إن الغوغاء والسوقة لا يُعرف منها إلا التضليل في الأسواق. إن الغوغاء ماهي إلا طيش أفكار خُلب لا تأتي بعواقب حميدة وإنما هي لا تعدو أن تكون إلا من صنع من يريد أن يميت حقاً ويحييّ باطلاً قال الله تعالى عن فرعون حينما أراد أن يُميت الحق ويُحيي الباطل نادى في الغوغاء فقال الله عنه في وحيه الطاهر (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ) إن الغوغاء التي تسكن الشارع لن تأتي بالخير البتة قال علي كرم الله وجهه ورضي الله عنه (إن الغوغاء إذا اجتمعوا ضروا وإذا تفرقوا نفعوا ) قالوا : يا أبا الحسن قد علمنا مضرة اجتماعهم فماهي منفعة افتراقهم؟؟ قال علي رضي الله عنه (يرجع أصحاب المهن إلى مهنهم فيرجع البناء إلى بنائه والخباز لمخبزه والمزارع لمزرعته) إن الذين يريدون أن يضيئوا شمعة بواسطة الشارع فإنهم ولا شك سيضيئون شمعتين للشيطان. إن الصراخ والانفعالات الهوجاء المجردة من مِسكة العقل هي سيوف لا تفرق بين المحسن والمسيء يقال في مضرب المثل على لسان حكيم قال (الجماهير رؤوس كثيرة ولكن ليس فيها دماغ ). إن العالم العربيّ اليوم يشهد مآسي تسيل العيون منها دما من هول ماحل في بعض بلاد العالم العربي، وكانت هذه المآسي هي نتاج جعجعة الشارع التي يدور رحاءها بدون حب . أيها القارئ الكريم إن العقل ونتاجه يصاغ في مناخ هادئ بعيداً عن التشنج والانفعال.. ودونكم هذه الحادثة إن الرسول صلى الله عليه وسلم يوم أرادت قريش أن ترفع الحجر الأسود من مكانه بعد تجديد مكانه فاختلفت البطون والقبائل إلى من يضع الحجر الأسود في مكانه فتعالت الصيحات والاختلافات وبينما هم كذلك إذ أطل الرسول صلى الله عليه وسلم فحكم تلك القضية برأيه الحصيف والمسألة معروفة . إن أصحاب الحل والعقد يجب أن يكون بأيديهم قيادة دفة سفينة المجتمع لا أن يكون مقودها بأيدي سفهائها، إن المتنبي قال يذكر الرأي الناضج : الرأي قبل شجاعة الشجعانِ *** هو أولٌ وهي المحل الثاني إنه يجب على الفرد أن لا يكون شاذا ولكن يجب عليه أن يتكيف مع المجتمع الذي يعيش فيه.. إن التكيف هو القدرة على التوافق مع الذات ومع من حولها لتتمتع هذه الذات بحياة خالية من الاضطرابات، فلا يصدر منها سلوك يدل على عدم الرضا عن الذات، كما لا يصدر عن هذه الذات سلوك فردي شاذ.. إن المرونة في الحياة والاتزان الانفعالي والعقلاني مطلب ضروري لعيش هادئ سليم.. وإن البعد عن التصلب والقسوة هو من متطلبات الحياة الواعدة . إن المرونة لا تعني الضعف ولا الانهزام بل تعني العقل بتمامه يقول المثل العربي (لا تكن صلباً فتكسر ولا ليناً فتعصر) إن العناد وركوب الرأس ظاهرة نراها متفشية في عالمنا العربيّ. إن العلاقة الحميدة مع من يعنينا أمرهم مسلك جيد، وإن الرفق شيء جميل في كل الأمور فلا يكون الرفق في شيء إلا زانه ولا نزع من شيء إلا شانه هذا هو قول الرسول صلى الله عليه وسلم .. كان معاوية بن أبي سفيان وهو من دهاة العرب يقول: (عجبت لمن يطلب أمراً في الغلبة وهو يقدر عليه بالحجة ومن يطلبه بالعنف وهو يقدر عليه باللطف). إنه لا يأخذني العجب أن أرى أناسا يريدون أن يمرروا رأيهم بواسطة الصياح بالشوارع وهم قد عرفوا ما آلت إليه تلك الآراء والصيحات التي صبت في شوارع دولنا العربية وكيف كان حالهم !!إننا اليوم نحمد الله تعالى ونشكره أن من الله علينا بولاة أمر حكموا بكتاب الله وأظهروا سنة نبيه وحكموا بالحق وإننا طالما في هذا النعيم الوارف والعيش الرغيد لا نقول لمن أراد غير ذلك إلا قول الله تعالى : (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) ختاماً :أدام الله لنا ديننا الذي هو به صلاح الدنيا والآخرة وحفظ الله ولاة أمرنا الذين هم ترياق لنا وسدد الله شعبنا الوفي ودمتم بحفظ الله.