يسترجع المسلمون اليوم ذكرى غزوة بدر الكبرى التي فصلت بين الحق والباطل فكانت البدء لتعاقب انتصارات المسلمين بعد أن كانوا في وهن وضعف. وترجع أسباب اندلاع شرارة المعركة في السنة الثانية للهجرة، إلى ما تمارسه قريش تجاه المسلمين -وتحديدا المهاجرين- من استبداد واضطهاد وتحديدا، إذ فتنتهم في دينهم فطردوا فئة منهم من مكة، وجردوهم من أموالهم، كما عذبوا من بقي في أيدي المشركين، حتى جاء الوحي بالإذن الرباني لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالقتال انتصارا للعدالة، وإحقاقا للحق، وردعا للظلم والطغيان، وجاءت تفاصيل الأحداث لتؤكد أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم ولن يرضى بالمهانة لأصحابه، لتتسارع وتيرة الأحداث شيئا فشيئا باتجاه المواجهة. بعد هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة استولى كفار قريش على أموال وبيوت المسلمين في مكةالمكرمة، فأراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يستولي على عير لقريش كانت قادمة من الشام إلى مكة، لاسترداد بعض ما فقده المسلمون، ولتلقينهم درسا. رحى الحرب خرج الرسول صلى الله عليه وسلم ب 300 ونيف من أصحابه فكانت الغزوة التي انتهت بنصر مبين للمسلمين إذ قتل من جانب المسلمين 14 رجلا ثمانية من الأنصار وستة من المهاجرين، أما المشركون فتكبدوا شر هزيمة وتفاقمت خسائرهم وفروا مذعورين بعد أن قتل منهم 70 رجلا وأسر 70. دروس وعبر تظل غزوة بدر نصرا ودرسا خالدا على مر العصور وتقادم الأزمان، إذ خلفت عددا من الفوائد أهمها أن الإيمان يظل الأول في حسبان المسلم فالغزوة التي التقى الآباء فيها بالأبناء، والإخوة بالإخوة، والتي فصلت بينهم السيوف؛ يتجسد فيها أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فأبو بكر -رضي الله عنه- في صف الإيمان وابنه عبدالرحمن يقاتل في صفوف المشركين، وكذلك عتبة بن ربيعة الذي كان أول من قاتل المسلمين من الكفار، وكان ولده أبو حذيفة من خيار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فلما سحبت جثة عتبة بعد الغزوة لترمى في القليب، نظر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أبي حذيفة فإذا هو كئيب قد تغير لونه!! فاستوضح منه سر حزنه، وهل هو حزين لمقتل أبيه أم لشيء في نفسه؟ فأخبره أبو حذيفة أنه ليس حزينا لمقتل أبيه في صفوف المشركين، ولكنه كان يتمنى أن يرى أباه في صفوف المسلمين لما يتمتع به من حلم وفضل. وحين مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقليب على قتلى قريش، ناداهم بأسمائهم وأسماء آبائهم، وقال لهم: (أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله؟ فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟!) فقال عمر: يا رسول الله، ما تكلم من أجساد لا أرواح لها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفس محمد بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم). الرأي والمشورة وأثناء عودة المسلمين إلى المدينة، عقب النصر على عدوهم، وهم يجرون سبعين أسيرا من المشركين بعد أن قتلوا سبعين مثلهم، قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق العودة اثنين من أكابر المجرمين الموجودين في الأسرى؛ وهما النضر بن الحارث، وعقبة بن أبي معيط لأنهما طغيا وأذيا المسلمين إيذاء شديدا، أما باقي الأسرى فتشاور الرسول صلى الله عليه وسلم مع الصحابة في أمرهم فهل يقتلونهم أم يقبلون الفدية ويطلقونهم؟ فأشار عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أن يقتلوهم، وأشار أبو بكر -رضي الله عنه- أن يطلقوا سراحهم مقابل فدية (مبلغ من المال) تكون عونا للمسلمين على قضاء حوائجهم، وأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم برأي أبي بكر. ولكن القرآن الكريم نزل مؤيدا لرأي عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فقال الله تعالى: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم. لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم). ومن الفوائد أن النبي صلى الله عليه وسلم حرص قبيل القتال على وعظ المسلمين، وتذكيرهم بالصبر والثبات والقتال في سبيل الله، كما بشرهم بجنة الله، فهو هنا يحرص على التفاؤل مع الاعتماد على الله. محبة الآخرين والإيثار ظهر في غزوة بدر أقوى وأجلى ملامح الإيثار فالغزوة التي خرج لها ثلاثمائة وأربعة عشر مسلما، ولم يكن معهم سوى سبعين جملا وفرسين، كان كل ثلاثة من المسلمين يتناوبون الركوب على جمل كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يمشي على رجليه، ويتناوب الركوب مع أبي لبابة، وعلي بن أبي طالب على جمل واحد، كل منهم يركبه فترة من الزمن فقالا له: نحن نمشي عنك، فقال صلى الله عليه وسلم في تواضع عظيم: «ما أنتما بأقوى مني، ولا أنا بأغنى عن الأجر منكما». حنكة القيادة أول ما يفكر فيه القادة قبل الغزوة معرفة أخبار العدو، وهنا تتجلى حكمة وقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم فأرسل جماعة من أصحابه، إلى ماء بدر، ليعرفوا أخبار الكفار، فوجدوا غلامين لقريش، فأخذوهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسألهما عن عدد قريش، فقالا: لا ندري، فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم: كم ينحرون كل يوم من الإبل. فقالا: يوما تسعا، ويوما عشرا، وكان معروفا أن البعير يكفي مائة رجل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (القوم فيما بين التسعمائة والألف، وهكذا يضرب لنا الرسول صلى الله عليه وسلم مثلا في القيادة الحكيمة، والتفكير السليم لمعرفة أخبار العدو، ثم قال للغلامين: فمن فيهم من أشراف قريش؟ فعدا له أشراف قريش، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس: هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ أكبادها. التعاون واليقين بالنصر بعدما بات المسلمون في موقف حرج؛ لقلة عددهم، استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم كبار المهاجرين والأنصار في أمر القتال، فتكلم المهاجرون كلاما حسنا، أيدوا فيه الرسول صلى الله عليه وسلم في قتال المشركين، وقال المقداد بن عمرو: يا رسول الله، امض لما أمرك الله فنحن معك ولكن النبي صلى الله عليه وسلم ظل ينظر إلى القوم، وهو يقول: أشيروا علي أيها الناس. ففهم سعد بن معاذ كبير الأنصار أن الرسول صلى الله عليه وسلم يريد رأي الأنصار، فقد تكلم المهاجرون، وأيدوا الرسول صلى الله عليه وسلم، وبقيت كلمة الأنصار، فقال سعد بن معاذ: يا رسول الله، لقد آمنا بك، وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض لما أردت فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك. فسر النبي صلى الله عليه وسلم لاتفاق المسلمين على مواجهة الكفار. صور إيمانية تجلت العديد من الصور الإيمانية للصحابة في هذه المعركة، فقد اختفى عمير بن أبي وقاص خلف المقاتلين المسلمين قبل الغزوة حتى لا يراه رسول الله صلى الله عليه وسلم ويرده لأنه صغير، وبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعرض جنوده رآه، فاستصغره وأمره أن يرجع، ولكن عميرا كان حريصا على الاشتراك في الغزوة، فبكى عمير، فلما رآه الرسول صلى الله عليه وسلم يبكي تركه، فمات شهيدا، وهو ابن ستة عشر عاما. وجاء فتيان من الأنصار وهما معاذ بن عمرو بن الجموح، ومعاذ بن عفراء يسألان عبدالرحمن بن عوف عن مكان أبي جهل، فقد علما أنه كان يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدلهما على مكانه وإذا بهما يسرعان إليه، ويضربانه بالسيف حتى قتلاه. ومر مصعب بن عمير بأخيه المشرك أبي عزيز بن عمير الذي وقع في أسر المسلمين، وأحد الأنصار يقيد يديه، فقال للأنصاري: شد يدك به، فإن أمه ذات متاع لعلها تفديه منك، فقال أبو عزيز: أهذه وصاتك بأخيك؟ فقال مصعب :إنه -يقصد الأنصاري- أخي دونك. وأشار علماء إلى أن بدرا تحتوي على دروس وعظات جليلة، كما تتضمن معجزات باهرة متعلقة بتأييد الله ونصر المؤمنين القائمين على مسؤوليات دينهم، إذ من الفوائد التي يجنيها المرء من الغزوة مبدأ التشاور الذي نلحظه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمور التي لا نص فيها من كلام الله، وأن النبي صلى الله عليه وسلم يتصرف أحيانا على أساس أنه بشر ويفكر مثل الآخرين ويظهر ذلك حينما أشار الحباب بن المنذر رضي الله عنه، على الرسول صلى الله عليه وسلم بتحويل المكان بعد أن استوثق أن الرسول صلى الله عليه وسلم اختار المكان من عنده وليس بوحي من الله فقبل النبي صلى الله عليه وسلم مشورته. ولم تقتصر تلك الأمثلة في الفداء والدروس على ما ذكر إذ ضرب المسلمون أروع الأمثلة في التضحية والفداء، فعندما سمع عمير بن الحمام الأنصاري قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض) قال: يا رسول الله، جنة عرضها السماوات والأرض؟ قال: نعم.. فقال: بخ.. بخ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وما يحملك على قول بخ.. بخ؟) قال: لا والله يا رسول الله، إلا رجاء أن أكون من أهلها، قال: (فإنك من أهلها) فأخرج تمرات، وأخذ يأكلها، ثم قال: لئن حييت حتى آكل تمراتي هذه، إنها لحياة طويلة، فرمى ما كان معه من التمر، ثم قاتل المشركين حتى قتل.