أصبحت قيادة المرأة للسيارة ككرة الثلج تكبر مع الأيام دون أن تلوح في الأفق بادرة أمل لمعالجتها، وأصبحت مؤشراً صادماً على التمييز ضد المرأة لاسيما في عيون الآخرين في الخارج شرقاً وغرباً، حد التهكم والسخرية واستخدامها ورقة للتقليل من مكانة المرأة السعودية، التي تسجل خارج الوطن وداخله دلائل على النجاح والإبداع، لكن منعها من القيادة يظهر كالندوب التي تشوه وجه بلادنا الناصع، ويستغلها أشخاص في دول مجاورة معظم سكانها لا يكادون يملكون سيارة، لكنهم يجدون في وضعنا الغريب والمتفرد في العالم فرصة للهجوم علينا، وأكثر من ذلك أن موضوع القيادة بات يحبط ما نبذله من جهود لإطلاع الآخرين على تميز إنجاز المرأة، لاسيما في عهد الملك عبدالله؛ فعندما قدمت محاضرة في إيطاليا على هامش احتفال المملكة بمرور ثمانين عاما على العلاقات السعودية الإيطالية منذ ثلاثة أسابيع، وكان عنوانها المجتمع السعودي في سياق العولمة والتحديث المرأة السعودية نموذجا، وعلى الرغم من إيرادي نماذج مشرفة للمرأة السعودية في كل المجالات ونال ذلك استحسان الحضور الكثيف، إلا أن بعضهم سألني بعد المحاضرة أما زالت المرأة عندكم لا تقود السيارة؟ وكيف تذهب هؤلاء المبدعات إلى أعمالهن؟ فبمَ عساي أن أجيب؟ هل أقول إنها تقود سيارتها في الخارج فقط، ولم يحدث أن سجلت ضدها مخالفة تذكر؟ أم أقول إنها تقود شركات ومؤسسات مالية ضخمة، وفرقا طبية في الداخل، لكنها لا تقود سيارتها، ليس لأنها أقل كفاءة وقدرة من الرجل الذي يسمح له بذلك في سنوات مبكرة من عمره، بل لأن هناك قوى في الداخل تتربص بها وتمعن في سد كل المنافذ أمامها، وأن فقهاء الظلام يصرون على جعل القيادة مخالفة دينية صرفة؟ منذ أشهر عادت قيادة المرأة للسيارة إلى ساحة النقاش على نحو أكثر جرأة وسخونة، وزاد من إوارها موقف ثلاث سيدات في مجلس الشورى جرؤن على فتح الملف مجددا بعد أن طوي لدن فتحه من قبل عضو المجلس السابق محمد آل زلفة، ثلاث من نسوة الشورى المخمليات لم يسترخين انتشاءً ببريق المنصب وميزاته، ولم يبالين إن كان ما فعلنه سيؤثر على التجديد لهن، نسوة آمنّ بأن وجودهن في المجلس ليس ترفاً ولا استمتاعاً بمزايا كانت حلماً لدى بعضهم – إن نساء أو رجالا - ولكنه وفاء للمشروع الإصلاحي الذي يقوده الملك -حفظه الله-، فجاء اختيار النسوة لتمثيل المرأة في مجلس بقي سنين عدداً حكراً على الرجال - في أكبر صفعة توجه للمعارضين المتشددين - واستشعار منهن للمسؤولية تجاه نساء الوطن اللاتي يرين فيهن امتدادا لهن، وقدرة على إيصال أصواتهن ومعاناتهن ومطالبهن للمجلس. يتصدر هؤلاء جميعاً فقهاء عجزوا عن إيجاد دليل واحد من القرآن أو السنة يمنع قيادة المرأة، لذا يجنحون لاجتراح آراء شاذة يخرجون بها عن مقتضيات العقل والفطرة السليمة وحاجة الناس في هذا العصر، ويفتحون بها أبواباً للفتنة وللإساءة للإسلام لقد بادرن بإلقاء حجر في البحيرة الراكدة التي أسنت مياهها لطول ركودها وصار مجرد الاقتراب منها يعد انتهاكاً لحرمات الأخلاق والشرف والأعراض، وكان الدكتور محمد آل زلفة سباقا إلى ذلك في موقف شجاع لا يختلف عن موقفهن، فناله من العنت جراء موقفه ما كلنا به عليم. وقد أسقطت التوصية - كما هو متوقع من المجلس - فما زلنا نذكر موقفه من تغيير إجازة نهاية الأسبوع، ومن صرف إعانة للعاطلين عن العمل، وبدل سكن للموظفين، ووضع حد أدنى للراتب التقاعدي، حتى ظن كثير من الناس أن مهمة المجلس الوقوف ضد مصالحهم - أما مبرر إسقاطها فلأنها حسب الناطق الإعلامي مخالفة للقواعد المسيِّرة لعمل المجلس، على الرغم من "مسوغات عديدة انطلقت منها مقدمات التوصية، كان أبرزها الجانب الشرعي الذي يحرّم خلوة الرجل بالمرأة، وجانب اقتصادي يوضح التحويلات المالية من عمالة أجنبية تتزايد عاماً بعد عام، في ظل تزايد أعداد النساء العاملات والدعم السياسي لها في عهد الملك عبدالله بفتح منافذ العمل في الدولة والقطاع الخاص". هؤلاء يجهضون وبقوة مشروع الملك عبدالله الإصلاحي، لكن كيف سيكون موقفهم فيما لو صدر قرار بتمكين من تشاء من النسوة قيادة سيارتها؟ لعلنا ما زلنا نذكر موقفهم من الإجازة الأسبوعية حتى حسمها القرار السياسي. وكان الأمر اللافت الهجمة الشرسة التي طالت السيدات الثلات، تجاوزت لغتها أبسط أدبيات اختلاف الرأي حيث هوجمن ديناً وخلقاً ووطنية، واتهمن بالسعي إلى إثارة الفتن، وذلك بأصوات عرفت منذ زمن بوقوفها ضد مشاريع التحديث متذرعة بمخالفتها الدين وتغريب المجتمع، والمثير للسخرية - حسب أحد الكتاب - أن اثنتين من نساء الشورى المخمليات "تقودان الحملة عبر مواقع التواصل الاجتماعي وبواسطة إسلاميات حركيات من ثلة الأخوات المسلمات.. بما يوحي وبوضوح، إلى أي مدى بلغ الحرج بالحركيات اللواتي يتغلب التزامهن الحزبي على طبيعتهن الانثوية". وعلى الجانب الآخر يظهرالواقفون بقوة ضد موضوع القيادة متذرعين بسد الذرائع، ولو استجابت الدولة لهم منذ أزمان لبقي الوطن يتجرع مرارة التخلف، ولما جرى التحديث على النحو الذي نعيشه، وهم قبل غيرهم يستمتعون بأهم منجزاته من سيارات فارهة، وقصور باذخة، وتقنيات بالغة الدقة، وقنوات فضائية ومواقع تواصل تدر عليهم الملايين. ويتصدر هؤلاء جميعا فقهاء عجزوا عن إيجاد دليل واحد من القرآن أو السنة يمنع قيادة المرأة، لذا يجنحون لاجتراح آراء شاذة يخرجون بها عن مقتضيات العقل والفطرة السليمة وحاجة الناس في هذا العصر، ويفتحون بها أبواباً للفتنة وللإساءة للإسلام، مما يحير العقول ويلجم الألسنة لفرط غرابتها، كالذين قالوا ذات سبات عقلي - على سبيل المثال لا الحصر- لولا رجال الهيئة لكثر اللقطاء في الشوارع، وهو الأمر الذي يطعن في أخلاقيات أبناء وبنات هذا الوطن، ولم يكثر اللقطاء في الدول العربية والخليجية على الرغم من عدم وجود ذلك التنظيم الذي يسمى هيئة الأمر بالمعروف. بل حتى في أكثر دول الغرب تحررا لم يكثر لقطاؤهم في الشوارع! ومن هؤلاء الذي قال: إن قيادة المرأة للسيارة "يؤثر تلقائياً على المبايض، ويؤثر على دفع الحوض إلى أعلى.. ويأتي أطفالهن مصابين بنوع من الخلل الإكلينيكي". ومع إيماننا بأن ما قاله تكذبه كل الوقائع والأحداث المشاهدة، فإن السؤال الذي يتبادر إلى الأذهان هنا: كيف عرف هذا وهو ليس من أهل الاختصاص؟ ثم أليسوا هم أصحاب مقولة من تحدث في غير فنه أتى بالعجب؟ فياله من عجب! يأتي هذا الرأي الصادم اعتراضا على المطالبة بقيادة السيارة، لكن هذا لا يبرر استباحة المرأة إلى الحد الذي يخل بكرامتها. كالذي قال إن قيادة السيارة تؤثر على عفة المرأة وعذريتها. كم نحن بحاجة إلى تنوير مجتمعي يتصدى للآراء الشاذة، ويحول دون صياغة مبررات لا يصدقها العقل، ولا تستقيم ومنطق العلم ومقتضيات العصر، وتجعلنا أضحوكة بين الأمم. وآخر لما علم بعزم النساء على القيادة في العام الماضي لم يملك إلا الدعاء عليهن بالموت، وكأني به قد حذا حذو الرجل الجاهلي الذي وأد مولودته تخلصا من العار الذي قد تلحقه به. حيث قال في مقطع صوتي تناقلته الصحف الألكترونية في الداخل والخارج: "حاولن قبل عشرات السنين لكن الله أحبط كيدهن ولعل نسبة منهن ماتت ولم تفرح، والآن سيمتن إن شاء الله ولن يفرحن بذلك". أما أكثرهم فحشا وجرأة وعدم خوف من حساب أو عقاب - مطمئنا إلى الأدلجة التي يظنها مانعته من الحساب الدنيوي، لكنه لن ينجو من عقاب الآخرة، جراء دعوته إلى الفتنة والفاحشة، ضد نسوة كل ذنبهن أنهن طالبن بحقهن في محتمع ذكوري يتخذ الدين ستارا لممارساته القمعية ضدهن – فذلك الذي وصف النساء اللائي سيقدن السيارات يوم 26 أكتوبر ب "العاهرات" وحرَّض على التحرش بهن. وقد نشر نعيقه على "تويتر" بقوله: "إذا حصل وقادت بعض النساء العاهرات في هذا اليوم فأتمنى من الشباب وبخاصة الدرباوية القيام بالواجب". وهكذا يصبح التحرش سلاحاً جديداً يتخذه المتشددون لمحاربة المرأة، ذلك أنها الورقة التي يمسكون بها منذ أزمان ويساومون الحكومة عليها، ولا يريدون أن تخرج من تحت وصايتهم، ولذا فإن القيادة آخر الأوراق الهامة التي يتمسكون بها، والمعركة الحامية التي يخوضونها، وخسارتها تعد خسارة كبرى لهم، بعدما خسروا معركة عملها في محلات اللوازم النسائية، إذ لم يتركوا باباً إلا طرقوه، ولا أسلوباً سيئاً إلا اقترفوه حدّ الشماتة بالأموات(غازي القصيبي رحمه الله)، والدعاء بالموت على من يخالف توجهاتهم (وزير العمل الحالي). لقد صار الشأن النسوي لفرط عجزنا عن حل مشكلاته المتشابكة مجالاً للعبث وإرباكاً للمجتمع بفتاوى من هذا النوع. هذا عدا اللغة البذيئة التي صارت لازمة من لوازم خطابهم الذي يتبرأ منه الدين الذي يدعون انتسابهم إليه، وما أحسب من يصف بعض نساء بلاده بالعاهرات إلا إنسانا تحرر من كل التزام ديني وخلقي تجاه أخيه المسلم.فياله من اجتراء!. تحدث هذه الآراء المتطرفة والعنيفة دوياً هائلاً ليس في بلادنا بل في العالم قاطبة! وفيما يتعلق بتلقي الصحف ووكالات الأنباء والمواقع الإلكترونية هذه الآراء الشاذة، فمنهم من ينسبها لبلادنا منتهزاً الفرصة للنيل منها، ومنهم من ينسبها للمؤسسة الدينية برمتها، يتضح هذا من العناوين التي يصُدّر بها الموضوع مثل: السعودية تمنع قيادة المرأة للسيارة لأنها ستزيد البغاء والأفلام الإباحية والمثلية الجنسية والطلاق ونهاية العفة والعذرية! وهكذا يفعل المغمورون والحمقى، فلا يعنيهم ما يسببونه من حرج لبلادنا، لقد تفرعن هؤلاء لأنهم لم يجدوا من يردعهم. أخيرا قيادة المرأة آتية، ومناطحة الصخر لا توهن إلا المكابرين..