لم أعرف طه حسين شخصياً ولا عرفت العقاد ولكني عرفت توفيق الحكيم في السنوات العشر الأخيرة من حياته معرفة جيدة. ذلك إنني لم أزر القاهرة مرة في تلك السنوات إلاّ وعرجت على مكتبه في الطابق السادس من مبنى «الأهرام» لأنعم بمجلسه الهادئ ولأقارن بين صورته كما رسمها هو في كتبه، وصورته كما تبينتها في هذا المجلس. وعندما علمت مرة، وكان ذلك في شهوره الأخيرة، أنه يعالج في «مستشفى المقاولون العرب» بالجبل الأخضر بالقاهرة، دأبت على عيادته في هذا المستشفى يومياً تقريباً حيث كنت أمضي ساعات طويلة عنده اسجل ما يدور بيننا من أحاديث، أو نشاهد التلفزيون أو أجيب عن استفساراته عن ميخائيل نعيمة وسواه في الأدباء اللبنانيين الذين كانوا من جيله، أو عن الحرب اللبنانية الدائرة يومها ومتى ستتوقف عن الدوران! ولو أردت الآن أن ألخص ما استقر في ذاكرتي عن مجالس توفيق الحكيم كما عرفتها عن قرب، لقلت ان متعة الراوي الشفهي هي التي بقيت مثل أي شيء آخر. فالحكيم راو ممتع كما هو كاتب ممتع سواء كتب رواية أو مسرحية أو سيرة ذاتية أو جنح إلى التفلسف من نوع ما كتبه عن «التعادلية». وإذا كان طه حسين يصنف عادة في باب الباحثين والعقاد في باب الكتاب فإن الحكيم يصنف بنظري في باب الأدباء والفنانين قبل كل شيء. فهو أديب وفنان ولو ان لغته الأدبية لا ترقى إلى لغة أدباء كبار في زمانه كعبدالعزيز البشري أو أحمد حسن الزيارات أو زكي مبارك أو ميخائيل نعيمة. ويبدو أنه قنع بما كان عليه من هذه اللغة البسيطة السهلة التي لا ترقى إلى قمم اللغة الفصيحة. فكل ما أراده هو أن يوصل أفكاره إلى قارئه بيسر دون أن يجهد هذا القارئ أو يضجره. ولم يحاول مرة أن يتأنق في كتابته كما يفعل بعض الكتاب. ولأنه كان ضعيف الثقة بموروثات الماضي الأدبي عندنا، فقد نهل بشغف من ثقافة الغرب ولم يعد يعنيه، بعد ذلك سوى الا يقع في أخطاء الصرف والنحو عندما يكتب.. لذلك قال مرة لحسين أمين (ابن العلامة المعروف أحمد أمين) إن عليه إذا أراد ان يكون كاتباً جيداً أن يهتم بالثقافة الغربية قبل كل شيء، والا يقرأ كتب التراث العربي القديم مثل «الأغاني» و«يتيمة الدهر» وما إليهما، إلاّ لتقويم لغته العربية لا أكثر ولا أقل.. ثم قال له ضاحكاً: ولكن إياك أن نخبر والدك أنني قدمت لك هذه النصيحة. عباس العقاد لعل متعة الراوي الشفهي في توفيق الحكيم هي أكثر ما بقي في ذهني من توفيق الحكيم. لساعات طويلة كان يروي لي ذكرياته عن باريس زمن دراسته فيها، وعن رأيه في المرأة والحب والموت وعن عاداته وطقوسه عندما يكتب وعن انه كتب أهم وأشهر كتبه قبل الزواج ولأن البعض قد حسبه على تيار عدم الالتزام في الفن أو على تيار الفن للفن، فقد ذكر لي انه على العكس فهو من صميم تيار الالتزام وأنه منذ أمسك بالقلم لم يحاول مرة ان يتسلق برجاً عاجياً بعيداً عن الناس والشارع أو ينشئ لنفسه أسلوباً جميلاً متأنقاً يتميز بجزالة اللفظ وحسن الديباجة وحلاوة الجرس وما إلى ذلك.. طه حسين ولأنه كثيراً ما وصف بعدو المرأة فإنه في كل مرة ورد في حديثنا موضوع المرأة كان يحرص على جلاء موقفه منها والوقوف مطولاً عند هذا الموقف وتبيان شتى صور المرأة كما يراها. فهو حيناً معجب بها أشد الاعجاب مفتتن أشد الافتتان وهو حينا آخر حاقد عليها ولا يفارقه الحذر منها أبداً كما لا يستطيع الاستغناء عنها. من بعض الوجوه كان يبدو مفكراً وهو يقول ان عقل المرأة اذا ذبل ومات فقد ذبل عقل الأمة كلها ومات، أو انها شريك محترم ولأنها كذلك فقد نادى على الدوام بضرورة تثقيفها لتكون زينة البيت وأستاذ الطفل ومعلم الجيل إنها ليست قطعة من أثاث البيت توضع فيه بجهلها وعقلها المغلق كما أنها ليست خادماً تطعم الرجل وتغسل له ملابسه ينبغي ان يجد الرجل فيها متعة عقلية تحبب له البيت حتى لا يهرب إلى المقاهي والحانات.. ولكنه سرعان ما يعود إلى تجربته معها وهي فيما يبدو تجربة مديرة لم ينسها حتى وهو يجتاز سنواته الأخيرة المرأة بنظره مخلوق يريد ان يستأثر بكل شيء في الحياة. لذلك فإن عداوته لهذا المخلوق لن تنقطع ما دام يخشاه.. هذه العداوة ليست في واقع أمرها سوى دفاع عن النفس. لو ان المرأة تمثال من الفضة فوق مكتبه أو باقة من الزهر في حجرته، أو اسطوانة موسيقية ينطقها ويسكتها بإرادته، لما كان عنده سوى اكبار لها لا يحده حد. ولكنها للأسف شيء يتكلم ويتحرك.. ويضيف وقد عاد إلى «الرشد» قليلاً إنني اعترف ان من المستحيل ان نرى في التاريخ حضارة قامت بدون المرأة ولا انحطت بدونها، فإن في يديها العبقريتين عبقرية الفناء وعبقرية البناء ان صالون السيدات في أوروبا ومجالس الشعر والغناء في الشرق عند العرب، هي التي أخرجت أجمل ما في الغرب والشرق من شعر وأدب وفن! وينتقل الحكيم في مجالس أخرى له إلى مقاربة موضوع المرأة من زوايا أخرى، فيرى ان الالهام الفني نفسه خلق على صورة امرأة وان لكل لون من ألوان الفن عروساً هي التي تنثر أزهاره على الناس ما من فنان على هذه الأرض أبدع شيئاً الا في ظل امرأة. ولكني أفرق دائماً بين المرأة كمخلوق يوحي بالجمال، وبين المرأة كمخلوق يريد ان يستأثر بكل شيء في حياتنا. ان اليوم الذي توجد فيه المرأة العظيمة التي تكرس بعض همها لايقاظ هم الفنانين، وايقاظ الحركة الفكرية لهو اليوم الذي نقترب فيه من المدنية الحقيقية. نحن في حاجة إلى البيت المصري الذي تنمو فيه ملكات الطفل الجميلة. ولكن ما الذي يحب الرجل في المرأة لقد اتضح بعد التجربة انه ما من رجل يحب في المرأة غير المرأة.. آه من المرأة ذلك الجهاز المشبع بالكهرباء الذي يلقي منذ البدء تيارات وموجات لا تلتقطها الا الغرائز وما العطور التي عرفتها المرأة منذ فجر التاريخ، بما تذيعه في الجو من شذا الا إشارات لاسلكية تخاطب بها حواس الرجال. وكذا النظرات والبسمات والتنهدات وكل ما يهيئ على البعد أثراً يفضي إلى الطيش والخفة. وهو يحبها ويخشاها والبعد عنها غنيمة نظراً لقوتها وعظمة أثرها في النفس ولعلها دائماً شر، والحكيم يعيش بالمثل الشعبي الذي يقول: «ابعد عن الشر وغن له»! ومع ذلك فالحكيم لا يتنكر للحب فهو في حياة الإنسان قصة لا ينبغي ان تنتهي. إن جوهر الحب عنده مثل جوهر الوجود لابد ان فيه ما يسمونه «المجهول» أو «المطلق» ويموت الحب على الأرض ينتهي العالم! ولكن واحسرتاه فالحب يقتضي رجلاً وامرأة. والحب هو روح الفن والفنان، ولا حياة لهما بدون حب. ويجنح الحكيم في سيرة الحب نحو الحب الروحي. فهو لا يرى الحب الا في طهارته وقداسته وكرامته. والحب الافلاطوني أو الحب العذري هو أسمى وأنبل ألوان الحب. إنه حب بلا حدود، ولا مقابل ولا تعاطف انه انصهار روح تحترق ولا تبغي أكثر من الافضاء بما يضني النفس لعل في هذا الافضاء ما يرضي الروح والقلب والفكر. ومنذ الطفولة كان الحكيم يصاب بحمى تلزمه الفراش لأيام كلما وقع بصره على جنازة مارة في الشارع. عرف ذلك أهله فكانوا يحرصون على تجنيبه منظر الجنازات. ولكنه، بعد الثمانين تحسنت علاقته بالموت فبانت مودة وألفة وبات يطلبه فيهرب منه ويبتسم ويسخر ويجعله يسخر من جنازته ومن كل الجنازات المارة. كان الحكيم راوياً ممتعاً في رواياته وبقية أعماله، كما كان راوياً ممتعاً في مجالسه وحكاياته. لقد كان أديباً وفناناً في زمن الباحثين والكتّاب!