ليلة ليست ككل الليالي.. جمعت الروحانية والمتعة.. ولذات التعبد والذكر.. ونثرت صوراً شتى لحشد عالمي لا يتكرر إلاّ في تلك الليلة.. هي ليلة مزدلفة بصفاء سمائها وهدوء ليلها..الذي تخيم عليه سحائب التهليل والتكبير والحمد حيث تتعالى بين أوساط الحجيج وألسنتهم تلهج بذكر الله تعالى. ولعل المتأمل لمشهد الحجيج في مساء مزدلفة يلحظ القدرة الإلهية العجيبة التي حشرت تلك الأجسام في فضاء باذخ بأنواره الكهربائية وسط حالة من الفرح التي تتشح بها عيون الحجاج. ضيوف الرحمن يؤدون صلاتي المغرب والعشاء جمعاً وقصراً ليلة الذكر وأكد الشيخ "أسامة خياط" -كاتب عدل بمكة المكرمة- على أن ليلة مزدلفة هي ليلة الذكر كما قال تعالى في سورة البقرة (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين)، مبيناً أن سبب تسميتها بمزدلفة لأن الناس يزدلفون فيها إلى الحرم دفعة واحدة، وتقع مزدلفة بين عرفات ووادي محسر وجبال مزدلفة ومنطقة المريخيات وبمساحة تقدر بأكثر من 13 كم2. وقال:"تحتضن مزدلفة مسجد المشعر الحرام الذي ذكر في الآية آنفة الذكر، حيث شهد اهتماماً كبيراً من حكومة المملكة توسعة وتعميراً وبناءً حتى أصبح يتسع لأكثر من 13 ألف مصل". حدود مشعر مزدلفة بين عرفات ووادي محسر وجبال مزدلفة ومنطقة المريخيات الجوهرة الوسطى ولم يترد "نايف الكندي" -حاج كويتي- في وصف ليلة مزدلفة بأنها ليلة "الجوهرة الوسطى" التي تتوسط عقد الليالي التاريخية والروحانية المفعمة بالإيمان في رحلة الحج؛ فهي تجيء بين ليلة الوقوف بعرفات وليلة العيد. وقال:"متعة ليلة مزدلفة تتجلى في صور شتى حولتها إلى ليلة تاريخية لا يمكن أن تُنسى أو حتى تُغفل في حياة أي حاج تذوق لذة العبادة والدعاء؛ فهي تجيء كاستراحة محارب أو واحة تجتمع فيها قوافل الحجيج بعد اجتهاد يوم من التعبد والدعاء والصلاة والذكر المغلفة بالخشوع والخضوع وتمريغ الأنوف لله تعالى"، مشيراً إلى أن أجمل الصور التي يمكن رصدها روح التآخي الفريدة التي كسرت حواجز اللغة واللون والعرق والمذهب والجنسية بين الحجاج وكأنهم أسرة واحدة، حيث ظل لساني يردد قوله تعالى: "لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم". اكتمال الاستعدادات في مشعر مزدلفة على مساحة 13 كم2 تجمع فريد وأضاف "سعد الفاضل" -حاج قطري يعمل في سلك التعليم- أن ليلة مزدلفة جسدت صورة واقعية يمكن من خلالها تخيل ملامح يوم الحشر، حيث تتوقف قوافل الحجاج، وهم شعث غبر في موقف مهيب متجردين من كل أسباب الزينة والتنعم والترف بلباس الإحرام، وهم منهكين من عناء يوم قضوها في العبادة، موضحاً أنه لا يمكن أن ترى في دول العالم هذا التجمع الفريد الذي يجمع أكثر من مليوني قلب ينبض بذكر المولى، وأكثر من أربعة ملايين عين اغتسلت بدموع التوبة والإنابة إلى الله تعالى، مؤكداً على أنها صورة رائعة تجسد قدرة شعائر الحج على جمع المسلمين وإحداث التغيير، وهو ما لم تحدثه حكومات أو أقوى وسائل الإعلام تأثيراً في كل أصقاع الدنيا. ليلة لا تنسى وأشار المواطن "بدر الحسيني" إلى أن ليلة مزدلفة لا تنسى في حياة أي حاج أدى الفريضة، ولا يمكن أن تُطمس من شريط الذكريات؛ كونها تجمع صورا ومشاهد تفيض بالروحانية، حيث تغلف مزدلفة سحب الدعاء وأصوات المهللين والمكبرين، ولا يقطعها سوى أزيز حافلات الحجاج؛ فهي ليلة تخشاها السكنية وتحفها الرحمة وهي تحتضن قوافل الحجاج المنهكة أجسادهم من عناء رحلة يوم عرفات. مسجد المشعر الحرام يتسع لأكثر من 13 ألف مصل مصليات مفتوحة وألمح "سعيد صالحي" -حاج ليبي- إلى أن من دروس ليلة مزدلفة -التي خرج بها- التأكيد على أهمية الصلاة التي تعتبر من أهم أعمال تلك الليلة، والتي لا يمكن التهاون فيها، مؤكداً على أنه تعلم فيها أن أداء الصلاة ينبغي أن يكون مقدماً على أي عمل آخر، وهو الذي لم أكن أعمل به من قبل، حيث تأخيرها عن وقتها، وذلك عندما شاهدت الجموع الهائلة وعلى مد البصر يؤدون صلاتي المغرب والعشاء جماعة من حوله، وحينها تحولت مزدلفة إلى مصليات مفتوحة وصفوف متناثرة تتعالى منها أصوات الأئمة. النوم العميق وقالت "صفية تيسر" -حاجة مغربية- إن ليلة مزدلفة تاريخية في حياتي، ولعل من أبرز مشاهداتها النوم العميق والبسيط والعفوي الذي لا يحتاج إلى تهيئة أو مقدمات، حيث النوم الممتع رغم أنه على فرش خفيفة، وربما تكون بلاستيكية لكن فرحة الرضا والجهد بالعبادة في يوم عرفات دهست كل أسباب العناء والتعب. ليلة ماتعة وأضاف "طارق بدري" -حاج مصري- أن ليلة مزدلفة ماتعة في كل فصولها وساعاتها ورمزيتها الدينية؛ لأنها جمعت دروساً تربوية مهمة تقطر بالروحانية والإجلال، مشيراً أنه على الرغم من أن ليلة مزدلفة لا تُقضى داخل منتجعات سياحية أو فنادق فاخرة أو شاليهات راقية على سواحل بحرية أو قمم جبلية خضراء، إلاّ أنها ليلة تفوق في جمالها ورونقها وراحتها جمال تلك المواقع لسبب واحد، وهو أنها ليلة النوم القسري والمبكر الذي فقدناه بأسباب ضجيج حياة المدن التي لا تنام في بلداننا خاصة مدننا العربية. ترقب وفرح وأشار "سالم الندوي" -مشرف على مخيم حجاج- إلى أن ليلة مزدلفة هي ليلة "ترقب وفرح "، حيث ترقب إكمال المناسك من رمي الجمار وذبح الهدي وحلق الرأس وأداء الطواف في الحرم المكي، والفرح بأيام عيد الأضحى المبارك وأيام التشريق، موضحاً: "ما أطيب مساء مزدلفة، حيث المشهد السنوي المهيب الذي لا يتكرر إلاّ في العام مرة واحدة، وهو مشهد أجسام الحجاج بلباسهم الأبيض وهم يفترشون أرض مزدلفة غير عابئين بطقسها أو فقدانهم لأسرتهم الوثيرة.. إنها لحظات مثيرة للدهشة والتفكر والتأمل". فجر يفيض فرحاً ويدرك المواطن "سعود الهذلي" أن في رحلة الحج لحظات لا توصف، حيث تفيض بالمتعة والروحانية، ولعل منها فجر ليلة مزدلفة، مبيناً أنه من مجرد الاستيقاظ من النوم ليلة مزدلفة يعني نفض غبار تعب يوم عرفات، ويعني شعور الحاج بهيبة المكان وقدسية الزمان وروعة العبادة، وهو يواصل الذكر فجر العيد في مزدلفة وسط تكبير جموع الحجاج وقد أضاء نور الشعائر وجوههم في منظر يتجاهل تعب المشي باتجاه الجمار ثم الحرم المكي.