أثبتت التجارب السياسية / الاجتماعية الحية التي يمرّ بها العالم العربي اليوم، أن أزمة هذا العالم كامنة في وعيه، قبل أن تكون حاضرة في واقعه المعاش . هذا العالم العربي الذي استطاع الغاضبون فيه تغيير نظام الواقع، ولكنهم لم يستطيعوا تغيير نظام الوعي ؛ فانتكس واقعهم - المتغير بهم -، مستجيبا لاستحقاقات الوعي الثابت الذي بدا أشد رسوخا، وأبعد تأثيرا، وأقدر على الصمود من كل تلك المحاولات الهشة التي خاض غمارها المُتَهارشون بأسنة الحناجر والمحابر، لا بوصفها وسائل ووسائط مشدودة إلى مصادرها الطبيعية (= العقول)، بل خاضوها فقط في حدود الحنجرة والمحبرة، بعد أن فقدت أو أُفقدت هذه الوسائطُ كلَّ صور الاتصال الطبيعي مع نظام العقل الإنساني العام . لقد ثبت واقعيا / تجريبيا أنه لا يجدي تغييرهذا النظام (هذا على افتراض أن ما حدث في دول الربيع العربي كان تغييرا حقيقيا في نظام الحكم، ولم يكن مجرد تدوير ماكر للشخصيات النافذة) ؛ مع بقاء نظام الوعي فاعلاً، خاصة وأنه بقي فاعلا بتلك الدرجة المؤثرة التي تجعله مهيمناً على كل حراك يتماس من قريب أو بعيد مع شبكة المصالح التي تسيطر عليها القوى المنفذة، والتي تتوارثها منذ بضعة أجيال . إن واقع العرب الثقافي (الذي يتجلى من خلال الموروث الديني والأدبي، وصولا إلى الموروث الشعبي)، والاجتماعي (كما هو ظاهر في تَسيّد القوى العسكرية والعشائرية والطائفية، وشبكات القوى الاقتصادية)، والسياسي (الواقع الإقليمي والدولي)، أثبت ولا يزال يثبت أن علاقته بالوعي الديمقراطي علاقة نفور وتضاد كان الحلمُ الواعد ديمقراطيا ؛ بقدر ما كان الوعي الجماهيري دكتاتوريا، بحيث بدا وكأنه يتعاطى الممارسة الدكتاتورية، أو يدعمها بشكل مباشر أو غير مباشر ، أو يتسامح معها في أقل الأحوال . إنه وعي شعبوي حالم، حالم حتى في غضبه، وليس في مجرد التعبير عن غضبه، وعي كان مرعى عزمه وهمومه روض الأماني، ولذلك لم يزل مهزولا ؛ كما قال أبو تمام . من بدهيات التصور السياسي الحديث، أن الوعي الديمقراطي لا يولد مع الإنسان بالفطرة. وكما أكد الفيلسوف السياسي الرائد : توماس هوبز، فالإنسان الطبيعي (أي في حالته الطبيعية / البدائية) لا ينطوي على عناصر السلمية في فضاء الاجتماع السياسي، بل على العكس من ذلك، تشير الدوافع الطبيعية لديه إلى (حالة عدوانية) تقبع في عمق الأصل الحيواني للإنسان . وما لم يخضع الكائن الإنساني لعملية ترويض ثقافي (ومنه الترويض الديني الذي يتجاوز أو يحاول أن يتجاوز بالإنسان حدود حيوانيته ؛ عندما يتجاوز به حدود نفسه)، وتحديدا : ترويض مقصود ومُمَنهج، يعمل على مجاليْ : الوعي واللاوعي ؛ فإن الإنسان سيبقى " ذئبا لأخيه الإنسان "، وسيصبح الفضاء الاجتماعي ساحة حرب حقيقية، بدل أن تكون حربا افتراضية أو رمزية، كما هي حال الصراع الديمقراطي الذي ينتشل الإنسان من حيوانية الإنسان . إذن، وبما أن الوعي الديمقراطي يُصنع، ويُستنبت بالتجاوز في أراضي الوعي الخصبة، ولا يولد كوعي متجاوز بالفطرة مع الإنسان في حالته الأولى، فإنه وعي مضاد للنوازع الطبيعية عند الإنسان . وهذا يعني أن الوعي الديمقراطي بحاجة إلى إرادة وإلى فعل وإلى تأسيس أولا، وإلى صيانة ومراعاة وتعزيز ثانيا، فأي اهمال في هذا الجانب كفيل بأن يرتد بالإنسان تلقائيا إلى الحالة الطبيعية الحيوانية الافتراسية . يحدث هذا في الوضعية الذهنية المحايدة، فكيف إذا كانت الذهنية العامة بموروثاتها التقليدية تشتغل على تعزيز وترسيخ هذه الحالة الطبيعية، ولا ترضى بها بديلا، بل ربما تتعشّقها إلى درجة الهيام . يخرج الإنسان من حالته الطبيعية / الحيوانية ؛ عندما يخرج من حالة قصوره العقلي (ما يسميه كانط : التنوير)، مجتازا حدود النوازع الطبيعية في ذاته، ومنصاعا لمُواضعات العقل الكلي، من غير أن يتخلى عن أولوية الأولويات المتمثلة في فردانيته، تلك الفردانية التنويرية التي لا تتحقق كاملة / فاعلة إلا في سياق مُوضعات العقل الكلي، ذلك العقل الذي لم تكن الديمقراطية الليبرالية إلا إحدى تجلياته المثلى في الواقع . العرب كغيرهم يحق لهم أن يحلموا، وأن يسعوا إلى تحقيق أحلامهم في الواقع . يتوق العرب إلى ذلك الزمن الديمقراطي البعيد، البعيد في المستقبل ؛ لا في الماضي . لكن، كيف يَتَخلّق جنين الحياة الديمقراطية من واقعهم المتخم بتحالفات عسكرية طبقية، مع أمنية ارتيابية، ومع عشائرية انفصالية، وكلها بالتحالف مع ثقافة دينية تقليدية متلبسة بالخرافة وبالتعصب، حتى وإن زعمت على مستوى ظاهر الخطاب الدعائي أنها تناقض وتناهض المسار الخرافي، وتحارب مقولات التعصب . فواقع المجتمعات العروبة يحكي أنها لا تزال عشائرية المنزع، طائفية الهوى، طغيانية الرؤية، محكومة ثقافة وواقعا بكل شروط التعصب الديني والمذهبي، وهي بالإضافة إلى كل هذا ماضوية إلى حد الموت اغتباطا بالجمود في دهاليز الماضي السحيق، وعدائية حتى في أشد مؤسساتها ادعاء للوسطية والاعتدال . عندما لا تكون الأرضية مُهَيّأة للانبعاث الديمقراطي، فضلا عن الهيكلة المؤسساتية الكاملة، فمن العبث دغدغة مشاعر الجماهير الحائرة بتوصيفها أنها تعيش بوعيها زمن الاستحقاق الديمقراطي، بدعوى أنها قطعت كل المراحل في مدى جيلين أو ثلاثة أجيال . لا بد أن تكون الأرضية مهيأة ثقافيا، وذلك بتعميم ثقافة النّسبيات التي تطال تصوراتنا عن الحقيقة، وما يتفاعل معها تسبيبا وتعليلا من ثقافة الارتباب بالبدهيات والمقولات الأولى . كما لا بد وأن تكون مهيأة اجتماعياً على المستوى المصالحي، أي أن تكون شبكة المصالح السائدة تتساوق أو على الأقل لا تتعارض على نحو حاد مع المسار الديمقراطي الآخذ في التَّشكل، وأن تكون مراكز القوى النافذة في حالة وَهَن أو تنازع، بحيث لا تجد غضاضة في الانضواء تحت مظلة التوافق الديمقراطي . وهذه التهيئة الثقافية والاجتماعية لا تعفي من ضرورة التلاؤم مع الواقع السياسي في مجاله الحيوي، فلا بد أن يكون الواقع الإقليمي والدولي حاضنا ولو بالدرجة الدنيا : الحياد للتجربة الديمقراطية الوليدة، وإلا كانت نشازا في السياق السياسي، ومن طبيعة النشاز أن ينتهي إلى زوال . إن واقع العرب الثقافي (الذي يتجلى من خلال الموروث الديني والأدبي، وصولا إلى الموروث الشعبي)، والاجتماعي (كما هو ظاهر في تَسيّد القوى العسكرية والعشائرية والطائفية، وشبكات القوى الاقتصادية)، والسياسي (الواقع الإقليمي والدولي)، أثبت ولا يزال يثبت أن علاقته بالوعي الديمقراطي علاقة نفور وتضاد، وأنه ليس مجرد واقع يعكس حالة وعي مُفرّغ من مكونات الثقافة الديمقراطية فحسب، بل هو وعي مشحون بكل عناصر العداء للثقافة الديمقراطية، تلك الثقافة التي لا يمكن أن تتأسس إلا على أنقاض ثقافة الاحتراب الديني والمذهبي والعشائري وعلى إيقاع ترذيل مصنفات التبديع والتفسيق والتكفير. إن الأمل التحرري الواعد الذي نعتصم به ؛ كي لا نسقط في هوة اليأس المحبط، لا يتأتى لنا من خلال هذا الواقع الثقافي المتحقق في وعينا الراهن، وإنما أملنا التحرري ممكن وواعد ؛ لأنه موصول بوعي متجاوز ولو على مستوى الحلم، وعي مأمول لم يتحقق بعد، وعي نُراوده من بعيد، بينما تتخطّفنا نوازع الخوف والرجاء أن نخذل أجيالا تنتظرنا بعد مئات السنين . بين واقع ثقافي بائس يكاد يطمس كل نوافذ الأمل، وأمل يتفتّح بكل جرأة الحياة على الأفق اللانهائي للإنسان، تتوتر علاقتنا بأنفسنا، كما تتوتر علاقتنا بواقعنا، وعلى امتداد ما بين ذواتنا وواقعنا تتوتر علاقتنا بموروثنا الذي لا يمكن أن نتحرر منه إلا بشيء من العقوق. وأقصد هنا : العقوق الثقافي الذي لا بد أن نئد به شيئا من ذواتنا . فلكي نتحرر من ثقافة الوأد لا بد أن نقدم بَعْضا من ذواتنا، من أرواحنا، قربانا لثقافة الوأد التي طالما وأدنا بها الإنسان في أعماقنا . هذا هو واقعنا ؛ كما أتصوره في حالة كوني متجرداً من مداهنة الوعي الجماهيري . من الضروري التصريح بذلك، والتأكيد عليه عبر عدة محاور ؛ لأن الخداع الثقافي، المتمثل في مداهنة الوعي الجماهيري بمنحه (قصائد) مديح، تؤكد له أنه في مرحلة متقدمة من مراحل الوعي الحضاري، مرحلة تسمح له بالانخراط في أرقى صور الديمقراطية نضجا، لا يخدم المسيرة الديمقراطية، بل يرمي بها في سلسلة من الانتكاسات التي لا بد أن تنتهي بالجماهيري إلى أحد مسارين : إما أن تؤدي إلى الكفر بالذات وبأهليتها الأصلية للتمثل الديمقراطي، وإما إلى الكفر بالديمقراطية ذاتها، واعتبار الفشل في الوصول إليها فشلا كامنا في جوهرها، أي بتأكيد عدم عموميتها الإنسانية، من حيث عدم قدرتها على الاستجابة لتطلعات الجميع . لا يجوز أن نمنح الوعي الجماهيري شهادة جدارة ديمقراطية لا يستحقها ؛ لمجرد أننا كأفراد مهمومين بذواتنا نراهن على جماهيرية نتطلع إلى تحقيقها ؛ أو لمجرد أننا نرفض واقعا لا نريد الاعتراف به . لا يخفى على أحد منا أن واقعنا يؤكد بشواهد غير محدودة أننا مأسورون إلى ثقافة ماضوية منغلقة أشد ما يكون الانغلاق، بحيث لا يصدر عنها إلا ما يؤكد أنها تُبَدّع وتُضَلل وربما تُكَفّر الديمقراطية بالإحالة تزويرا وتزييفا إلى الشرع الحنيف . حتى الأحزاب والتيارات الإسلاموية التي مارست العمل السياسي من خلال الديمقراطية، بحيث بدت وكأنها تؤمن بها، لها تاريخ في تحقير وتكفير الرؤية الديمقراطية . وما كتاب الجزائري : علي بالحاج الذي يصرح فيه بتكفير الديمقراطية، إلا دليل في توقيته، وفي موقعه من حيث المسار العملي على ذهنية ماضوية سائدة بل ومهيمنة، لا تؤمن بأي من مبادئ التحرر الإنساني الأولى : الحرية (إذ هي محدودة لديهم بحدود ما سمح به الأولون) والإخاء (إذ هو كفر، إذ ينقض معتقد البراء) والمساواة (إذ هي تنقض تراتبية الطبقية الكهنوتية، وما يتقاطع معها من طبقية النبلاء!)، فضلاً عن أن تؤمن بالجميع. إضافة إلى هذا (التحريم الثقافي) للديمقراطية، تجري عملية أخرى مساندة لها، وهي عملية إثارة المخاوف من الديمقراطية، إلى درجة أن يتصورها الوعي الاجتماعي خطرا داهما ؛ بدل أن يتصورها آلية لدرء الأخطار على المستوى القريب والبعيد. زد على ذلك تكذيبها (= الديمقراطية) وتخوينها، بادعاء أنها ميدان مخترق بطبيعته، بحيث يفتح هذا الاختراق المزعوم المجال واسعا لكل صور التحوير والبديل والتلاعب بخيارات الناخبين، وكأن الاستبداد بريء من الاختراق ومن كل صور التلاعب بالإنسان، مع أننا ندرك جميعا أنه بمحض وجوده اختراق، اختراق لوجود الإنسان بالكامل، أي فساد تام، حالة سلب بالمطلق، بحيث لا يكون ثمة معنى للحديث عما فيها من سلبيات . أما حالة السكوت عنها (= الديمقراطية)، من حيث تعمد إزاحتها عن دائرة الاهتمام إهمالا أو تجاهلا، في مقابل المسارعة لتقديم دعم ضمني أو صريح للاستبداد أو لأحد مكوناته، فهي حالة أخرى تعكس موقف الوعي العام من الديمقراطية التي يرتاب بها، و أحيانا يكرهها من غير وعي، ويعتبر النجاح من خلالها نجاحا لا معنى له ؛ لأنه إنما تحقق على سبيل الحصر بواسطة آلية ثقافية / مؤسساتية هي في النهاية من ابتكار الآخرين . كل هذه عقبات كأداء لا بد من إسقاطها بكل صور النضال الثقافي ؛ لأنها تقف دون تأسيس نظام جديد للوعي . ومن ثم تقف ضد تغيير نظام الواقع الذي لا زال يستعصي على التغيير . لا جدوى من إسقاط / تغيير الواقع ؛ ما دام نظام الوعي المنتج له يعمل بكامل طاقته، ويستثمر عدته المعرفية، بقدر ما يستثمر معطيات الواقع العملي ؛ لتحقيق مزيد من الانكفاء على واقع الاستبداد..