يستأنف عبدالله العروي في «ديوان السياسة» (منشورات: المركز الثقافي العربي، بيروت 2009) ما بدأه قبل عام في «السنة والإصلاح» :تقطير العصارة وتركيزها أكثر.ما في «ديوان السياسة» تجده موزعاً في كتب سابقة، تاريخية وفكرية: في «تاريخ المغرب»، و «الأصول الاجتماعية والثقافية للوطنية المغربية»، و «مفهوم الدولة»...، كما لا شك تجد مواد متفرقة من «السنة والإصلاح» في «مفهوم الدولة»، و «الإسلام والتاريخ»، و «مفهوم العقل». لكن المادة السابقة تدخل، في الكتابين، في نسق جديد؛ تتكثف أكثر، وتقدم في بناء نسقي أكثر تماسكاً، وتعرض في نظام من التعبير أكثر سلاسة وجمالية وانسياباً من دون أن تبارح صرامتها النظرية مع اقتصاد في القول ينتقل فيه النص أحياناً من لغة العبارات إلى لغة الإشارات، مراهناً على قارئ يقظ، حاذق ومتابع. هو كتاب في السياسة، كما كان سابقه كتاباً في العقيدة على ما يصرح المؤلف في أول صفحة (ص5)، والفارق بين المجالين كبير. وهو صيغ شكلاً، كالأول، في صورة فقرات منظمة تتسلسل أرقاماً حتى الرقم سبعين. وكل فقرة تحمل فكرة يتوزع التعبير عنها على فقرات فرعية ومن دون عناوين أو فصول ما خلا العناوين التي بها تستهل الفقرات. لكن التالية منها في التسلسل ترتبط بسابقتها وتقود إلى أخرى؛ و «الشاطر» من يمسك نفسه عن الضياع في التفاصيل ويتمسك بالبحث عن الروابط. والكتاب، بهذه الهندسة الكتابية التي اختارها مؤلفه كسابقه، مرهق لمن لم يتعود هذه الطريقة من التأليف حيث على القارئ أن يتحول فيها إلى شريك للمؤلف في النص. وهذه الشراكة لا تكون إلا بعد أن يدفع القارئ غرامتها في شكل قراءات متعددة للكتاب يستبين بها شيئاً فشيئاً ما استغلق عليه في الأول. ومرة أخرى يزيد المرء اقتناعاً أن الأستاذ عبد الله العروي في جملة قلة قليلة تشعرك بأن للمعرفة ثمناً يؤدى من الوقت والجهد، وأن استسهالها أقصر طريق إلى الجهل. 1- ما وراء السياسة: النوازع والتربية الأولى: لا يكون التفكير في السياسة مستقيماً إلا من طريق البحث في ما وراء السياسة، في ما يؤسسها ويصنع دينامياتها ويفرض على تطورها مسارات بعينها. تفهم السياسة وتفك مستغلقاتها فقط حين نرد وقائعها إلى تلك العوامل التحتية التي توجد، وتعمل، خلف مشهدها المرئي. وليست العوامل تلك في جملة المُوعى به دائماً، بل على الغالب، وإنما أكثرها مما لا يقع في نطاق القابلية للإدراك. يتصرف المرء وفي ظنه أنه يتصرف بحرية، يتساءل العروي: «هل نحن، الأفراد، أحرار في اختياراتنا؟»، و «ما دور الوعي أو اللاوعي» في ما نفعل؟ (ص6). نعتقد أننا نتبادل لغة ومفاهيم ورموزاً مشتركة، فنكتشف أن ثمة ما قد يشذ عن المألوف في كلامنا، «هذا المسكوت عنه...، أوليس هو المتحكم في كل ما نفكر ونقول؟» (ص7). وجد في تاريخ الفكر من افترض العقل قواماً للسياسة، وكان سبينوزا ولوك وروسو في جملة من قال بذلك من المحدثين؛ ووجد من افترض النوازع النفسية قواماً لها، وميكيافيلي وهوبس ومونستكيو من هؤلاء (ص7 – 8): عندنا، الفارابي من معسكر الأولين وابن خلدون من معسكر الواقعيين (ص12). أما الأستاذ العروي، فما أخفى أن للواقعيين حجة تقوم من واقع السياسة. لو قرأنا ما وراء ظواهر السياسة، وقفنا على ذلك الغميس: نوازع النفس: وراء الاستبداد الذي هو «ملازم السياسة أياً كان النظام» الخوف. وهذا الثنائي «الخوف/الاستبداد هو المستوى الأصلي، الأولي، للسياسة» (ص13)؛ ووراء الاصطفافات السياسية والانشقاقات في الأحزاب وإرادة التحرر من بيئة الأقلية نزعة «الطموح» (ص14 - 15)؛ ووراء الانقياد لسلطة الكاريزما والوفاء لها والولاء والإعجاب عاطفة «تعود إلى قوى التوهم» (ص15 - 17) التي تحدث عنها ابن خلدون في «المقدمة»؛ ووراء الثروة والفقر والرشوة وصراع الطبقات منزع «الطمع» (ص17 – 18)؛ ثم وراء سياسة الناس (= حكمهم) «الحاجة» بما هي «المعطى الأول» للسياسة (ص19 – 20). ظواهر السياسة ترتد كافة إلى نوازع في النفس لا تكاد تلحظ في التحليل العقلاني («لولا الطمع لما كان اضطهاد وانتقام وسلب ورشوة. لولا الطموح لما كان توسع وفتح واستيطان...، لولا خوف الحاكم لما كان قمع واستخبار وثأر» (ص21)، ما مصدر هذه النوازع؟ هي نوازع طبيعية، حيوانية في الإنسان؛ لكنها تتغذى من مورد اجتماعي وبه: التربية الأولى. و «هذه التربية لا تختلف كثيراً عن الترويض والتدجين وإن نعتت عادة بالتهذيب والتثقيف»، إذ «يربى الصبي كما يربى الحيوان. لا فرق»، والحيوان هنا كناية عن تلك النوازع التي «لا نلمسها إلا من خلال نتائجها، أي من خلال ستور مكثفة» (ص23). إلى الأم – أو من يقوم مقامها – يعود أمر تلك التربية. والأم ليست كائناً مجرداً إلّا في اللغة النظرية، أما هي في الواقع فمرآة تعكس محيطها الاجتماعي، فهي «إما بدوية وإما حضرية، عربية أو أمازيغية أو مختلطة، شريفة أو عامية، طرقية أو سلفية، مخزنية أو سوقية» (ص24). لا تتأثر وظيفتها بهذا التمايز، لكنها في نطاقه تعيد إنتاج الموروث، ترسخه، يتشربه منها الصبي كما يرتضع حليبها. الشعب كالأم متنوع (وإن وحدته الدولة). كل فرد فيه يعرف نفسه على قاعدة معطيات التنوع تلك، و «التربية الأولية هي هذه المعطيات منعكسة في جسم ووجدان وذهن الطفل وهو تحت رعاية الأم» (ص26). 2- ما وراء السياسة: المجال الاجتماعي تجري التربية ضمن بيئة هي الأسرة. لكن، هذه متنوعة بتنوع البيئات الاجتماعية التي تنتمي إليها؛ القبيلة والزاوية من هذه البيئات. بيئة القبيلة مؤثرة و «الذهنية القبلية» أشد تأثيراً، أحداث السياسة اليوم تؤكد ذلك في المحيطين العربي والإسلامي (ص26 – 27). ولا تقل الزاوية تأثيراً، حتى إن الوظائف الاجتماعية التي كانت لها، وفقدتها لفترة بسبب زحف المؤسسات الحديثة، بدأت تستعيدها وتستعيد معها من كانوا في جملة جمهور الأحزاب والنقابات والجمعيات بعد أن تزايد البرم بهذه المؤسسات و «دب الملل إلى النفوس» (ص30). تعني هذه العودة – في ما تعنيه – انتصار البنى التقليدية على الحديثة وانتعاش أصوات (=ثقافة) «تدعو إلى الخضوع والانقياد، إلى النية والتوسل» (ص30)، إنه مفعول «التربية الأولية» يستمر. المخزن (= الدولة التقليدية) استمرار لهذه البنى، فهو – كما قال ابن خلدون – سلطان قبيلة أو زاوية؛ وهو في الحالين «تنظيم مضاف» (30)، لكنه يكرس ذهنيته – القائمة على الخضوع – في المجتمع كله، إذ «بما أن المخزن نظام مسيطر، تصبح العلاقة المخزنية، بالاستصحاب والاستتباع، هي الغالبة على الزاوية والقبيلة وحتى على الأسرة... تتعاقب الأجيال، يتتابع الحكام...، ويبقى النظام على حاله... وكذلك الذهنية العامة» (ص31). بين المخزن والنخب الاجتماعية وشائج لا تنقطع؛ فهي إما جزء من نظامه أو تنتسب إلى الزوايا التي تتصل به (ص33). وراء الدولة وأجهزتها هذا النظام الاجتماعي المتوارث؛ تتغير النخبة السياسية وتتجدد، لكن النخب الاجتماعية تستمر (ص35)؛ تتشكل الطبقات الاجتماعية في المجتمعات الحديثة من عمليات صهر وإدماج، أما الهيئات (النخب) الاجتماعية فتظل بعيدة عما يمكن أن يدخل مفعول التبينين الطبقي فيها لأنها مغلقة على «ماهياتها» الأولى، والتربية الأولية كفيلة بإعادة إنتاج هذه الهيئات (ص36 – 39) التي ما تزال تتصرف كهيئات (شرفاء، علماء، شيوخ، فلاحون، صناع...). فترة التمرد على مفاعيل التربية الأولية محدود في عمر الإنسان، يساهم فيها التعليم النظامي والاندماج الاجتماعي. لا تلبث المفاعيل تلك أن تعود فنشهد «صورة أخرى من «طفح الغميس» بعودتها (ص42). أثناء التمرد عليها، يعتقد المرء أن أيديولوجيا «الحكام» هي ما يمنع هؤلاء من إدراك الواقع، لكنه «يتعامى... عن وضعه الطبيعي. ينكر أن تربية الأم لا تزال تعمل في أعماقه رغماً عنه...، وأنه سائر لا محالة إلى التصالح مع الواقع، أي مع الموروث فيه» (ص43). وحين نلقي نظراً على محصلة تجربة التعليم النظامي، نلفي أنفسنا أمام تجربة آلت إلى الفشل، وهل عودة سلطان التربية الأولى إلا من أظهر الأدلة على ذلك الفشل؟ والأسباب – عند العروي – متعددة: من برامجه إلى اللغات ومعضلات الحرف والفصحى واللهجات... وسلطان الموروث الذي يتأبى أي تجديد (ص44 – 61). 3- مجال السياسة «لا تكون النظرية السياسية سياسة. السياسة ممارسة ليس إلا» (ص42). قول نافل، لكنه مفتاحي لإدراك ما في مجال السياسة من ديناميات خاصة. وظيفة النظرية، قطعاً، فهم تلك الديناميات، «توضيح المفاهيم قبل العودة إلى الواقع المشاهد» (ص63)؛ لكنها، في الوقت عينه، لحظة التحرر من الموروث، اللحظة التي فيها «تتباعد الإنسانية عن الحيوانية» (ص65)، العقل عن النوازع. مجال السياسة هو، بالتعريف، مجال الدولة وإن تكن الديناميات في الغالب سابقة للسياسة أو قبل – سياسية. وما الدولة إلا القانون مجسداً، وهو في الوجود أسبق (العادة أو العرف). يتجسد القانون في صور مختلفة للدولة: في «دولة الواحد» (ص67)، وفي «دولة القلة» (ص75)، وفي «دولة الجمهور» (ص81): «دولة الواحد» دولة الملك. التلازم بين الملك والاستبداد وضع تاريخي طرأ لكنه ليس تلازماً ماهوياً. لعله كذلك في أذهاننا بسبب موروث قرآني ربط بين الملك والطغيان وفصل فقه السياسة القول فيه محتسباً الملكية الاستبدادية «النظام الطبيعي لرعاية الناس، أي لسياسة الإنسان الحيواني»، وهو ما بات في حكم الذهنية العامة التي تتشكل من طريق «التربية النظامية التقليدية» (ص69). ولعله كذلك في أذهاننا «بسبب تجربتنا الخاصة... لكن دراسة التاريخ المقارن تثبت غير ذلك» (ص72). «دولة القلة» هي الأظهر في التاريخ. إنه «الحكم العادي والطبيعي» لامتناع تصور حكم الواحد والجمهور (ص75). والقلة هيئة اجتماعية قريبة من الأمير أو قريبة من المجتمع، ويختلف دورها تبعاً للموقع. فقد تكون هيئة «الأشراف» أو «العلماء» أو «التجار» أو «المحاربين» أو «الخبراء»؛ و «يختلف نظام عن آخر باختلاف هوية القلة» (ص77)، فيكون ارستوقراطياً أو ثيوقراطياً أو عسكرياً أو تكنوقراطياً بذلك المقتضى (ص76 – 77). ولأن قوام الملك التفويض، فإن القلة التي تفوض للحكم يمكن أن تتحول إلى نخبة إما ب «القرعة»، كما كان في اليونان، أو ب «التصويت» على مثال المشهور في الديمقراطيات الحديثة (ص77 – 78). أما «دولة الجمهور»، فهي ما نعت باسم الحكم الديمقراطي (ص78 – 84). وهي «تبدو، في العقل، الأقرب إلى الإدراك» (ص82)، حيث يحكم الإنسان نفسه فيكون حراً عاقلاً ولا يحكمه غيره فيكون خانعاً قاصراً. ولكن هل حصل ذلك على نحو ما تأولت الديمقراطية الحديثة سابقتها؟ وهل هي اليوم أفضل كما يرتجى؟ نؤجل الجواب إلى حين. ثلاثة نماذج للدولة في التاريخ، لكل فضائله وعيوبه. كيف يمكن تعظيم الأولى وإطراح الثانية أو – على الأقل – تحييدها؟ سؤال شغل من سينصرفون إلى البحث عن «هندسة سياسية» (= دولة مزيجة) تجمع بين الفضائل الثلاث هي «الهندسة الدستورية» التي تنطلق «من فرضية الحكم المزيج حيث يتواجد سلطان الواحد والنخبة والجمهور بنسب متفاوتة وعبر آليات متنوعة» (ص97). هل تشذ «الدولة الإسلامية» عن القاعدة؟ مصادرنا عنها محدودة (الماوردي، أبو يعلى الحنبلي، الجويني، ابن تيمية، ابن خلدون...) (99 – 101)، حين ندقق نجد أن السلطة المفوضة هي نفسها الموجودة في أية دولة، وهي «وظائف عامة نسميها اليوم وزارات، وسماها الفقهاء بأسماء ذات طابع شرعي» (ص102). لم يفعل الماوردي والفقهاء، إذن، سوى «إضفاء صبغة شرعية على الدولة القائمة» (ص103)، إذ إن ما يميزها ليس كونها «إسلامية» بل كونها نشأت في زمن معين وفي منطقة معينة» (103). وهي ككل دولة محكومة بالقانون، وقانونها الشرع. لكن السلطان – الذي لا يملك الخروج عنه – «يستطيع... تأويله بمساعدة قسم من العلماء» (ص106). 4- الثنائية مجدداً يقف الأستاذ العروي في الكتاب على ما يبدو وكأنه مفارقات تحكم مجال السياسة. ليست مفارقات عقل السياسة، وإنما هي منطقها المحكوم بالثنائية الأصل المغيبة: ثنائية الحيواني/ الإنساني الحاكمة سلوك الإنسان. ثنائية تتجاوز النطاق الفردي المحض لتتجلى في ظواهر الاجتماع السياسي أيضاً. نتناساها ونخال أننا تحررنا منها، ثم لا تلبث أن تفجأنا في الحياة العامة فنعرفها، إن بذلنا جهداً في التحليل والسبر، من خلال شواهدها وقرائنها. نقسم العالم – مثلاً – إلى شرق وغرب فنصف الأول – في السياسة – بأنه عالم الاستبداد، ونصف الثاني بأنه عالم الحرية، ثم نكتشف أن هذه الازدواجية ليست موضوعية وإنما ذاتية، في الإنسان نفسه («ازدواجية بشرية» ص9)، وأن التعارض «ليس... بين جهتين (الشرق والغرب) ولا بين نظامين (الاستبداد والحرية)... بل التعارض بين مستويين في الطبيعة (الحيوان والإنسان) في السلوك (الشهوة والعفة)، وبالتالي في التصرف»؛ إنه أشبه ما يكون بالقانون أو بالمطلق: «قائم باستمرار، شرقاً وغرباً، ماضياً وحاضراً، عملياً ونظرياً» (ص12). في النماذج الثلاثة للدولة، نعثر على الثنائية إياها. في «دولة الواحد» تأخذ شكل ثنائية الملك/الطاغية: الملك حيث تقترن عنده الرهبة بالإلهام (وهما قوتان تنفصلان عند السلطان)، والطاغية حيث يقيم السيف مقام السلطة غير المرئية (ص74). وفي «دولة القلة» تأخذ شكل الحكم الفاضل/الحكم الرذيل: حكم من وازعه الفضيلة، وحكم من تستبد به الرذيلة. أما في «دولة الجمهور»، فتأخذ شكل ثنائية الديمقراطية/الديماغوجية. الأول حكم العقلاء، والثاني حكم الرعاع. حتى عند فقهاء «الدولة الإسلامية» تأخذ شكل ثنائية الدولة/الفوضى، الخاصة/العامة (=الغوغاء). حين نعيد هذه الثنائيات السياسية إلى أصلها الذي نشأت عنه (الحيواني/الإنساني)، نكتشف أنها كيفيات لتلك الثنائية التأسيسية، تعبير عن جدلية يكشف عنها التاريخ كجدلية متأصلة: «جدلية الفضيلة والرذيلة، الخير والشر» (ص86 – 87). الصحة والفساد في هذه الجدلية (ص84...) ليسا تقابلاً بين ماهيتين للسياسة، بل تعبير عن محايثة الجدلية نفسها كل حد من حدي الثنائية. ما العمل، إذن، لإخراج مجال السياسة من هذه «المفارقات» الحدية؟ بالاعتراف أولاً بأن تلك الثنائية الأصل (حيواني/إنساني) ثنائية طبيعية واطراح فرضية الإنسان العاقل مطلقاً في السياسة كما تخيله لوك وروسو. هذه واحدة؛ الثانية: بالعودة إلى الهندسة السياسية الدستورية التي تروم – انطلاقاً من وعي تلك الثنائية – تأسيس نظرة واقعية (وتركيبية) للسياسة. لا بد هنا من الاعتراف بأن الفساد ليس شذوذاً عن النواميس، وإنما هو من طبائع السياسة والوجود الإنساني، إذ «الفساد ملازم الإنسان والإصلاح لا يعدو أن يكون ترميماً مستمراً لفتق متجدد» (ص95). وعلى هذا المقتضى، ينبغي أن تكر سبحة الاعترافات: لا مكان للطوبى في السياسة، فالسياسة ما يفرض حقائقه علينا بعجرها وبجرها. لا مكان لافتراض شعب مثالي للسياسة، إذ «الجمهور هو الجمهور، كما هو الآن وكما سيكون»، والديمقراطية ليست أكثر من «تمثيله برضاه»، ذلك أن «النظرية السائدة اليوم هي أن الديمقراطية هي ما نجرب، نرى ونلمس، وليس شيئاً أعلى» (94). وهكذا تختلف الهندسة السياسية اليوم عما كانته في الماضي من افتراض المثال، إذ «لا يبحث التنظير الحديث عن النظام الأمثل كما كان يفعل القديم. بل يروم هندسة هيكل حكومي متوازن» (93). لا بد، إذن، من هدم فكرة الدولة المثالية (دولة الفارابي ولوك وروسو) لبناء الدولة الواقعية: دولة ابن خلدون وميكيافيلي وهوبس ومونتسكيو والمعاصرين الواقعيين. 5- والمغرب؟ يكتب العروي ما يكتبه وهاجس المغرب يسكنه. أحياناً تجده خلف ستارة الكلام، وعليك – حينها – أن ترفع الستارة كي تراه؛ وفي أحايين أخرى يصرح ويباشر. لكن ما يقرأه في لوحة المغرب السياسية – كما تبدو له – ليس خاصاً بالمغرب حصراً، بل فيه ما يقبل الانطباق والتعميم على حالات عدة في المحيط العربي، حتى وإن وطن في ذهن قارئه أن الحالة المغربية استثنائية في التكوين والتطور وأن تشديد العروي عليها، من دون سواها، قرينة على وجه الاستثناء فيها. في المغرب السياسي صور من التداخل بين «دولة الواحد» و «دولة القلة» و «دولة الجمهور». لكنه تداخل مشوب بالالتباسات ولا يشبه «الدولة المزيجة» التي تبحث عنها الهندسة الدستورية الحديثة. الدولة عندنا محكومة بثنائية عريقة: منذ الاحتلال الفرنسي قبل زهاء قرن، هي ثنائية دولة المخزن/دولة الحماية. وقتئذ، كانت الثنائية في شكل دولتين على بلد واحد: الأولى على رأسها سلطان يتمتع برأسمال الشرف والنفوذ الروحي ويملك الإمرة والإمامة في الحدود التي لا تتعارض مع سلطة دولة الحماية. أما هذه – الدولة الثانية – فانتزعت الجيش والإدارة من السلطان لتترك له القضاء الشرعي والأوقاف والحسبة (وهي من متعلقات القضاء) (ص109 – 113). لكن الدولتين تركبتا في دولة واحدة حوفظ لها – صورياً – على وحدتها السيادية. وهكذا كانت الدولة المغربية في عهد الحماية مزدوجة «لغتان، ثقافتان، اقتصادان، قانونان الخ» (ص113)، ففيما «كانت السلطنة إمارة وإمامة في الوقت نفسه» قبل الاحتلال، تغير الحال في عهده حيث «السلطنة – الإمارة فوضت إلى الأجنبي... فيما ظلت قائمة الإمامة المدعومة بالشرف» (ص113 – 114). انهار نظام الحماية، لكن الازدواجية لم تنهر، استمرت تعيد إنتاج نفسها داخل الدولة ولكن جمعت بين يدي السلطان سلطات «الدولتين» (ص114). ثم ما لبث «الدستور الممنوح عام 1961» (ص115) أن سعى في التعبير عنها في شكل لم يحي الماضي تماماً ولا استجاب لتطلعات الوطنيين تماماً. وكان هذا الوضع الملتبس للدولة والدستور في المنزلة بين المنزلتين هو الذي غذى باستمرار شعار، ومعادلة، الأصالة – المعاصرة في الخطاب السياسي (ص115). ما العمل أمام هذه الكيمياء السياسية المغربية التي تؤلف بين التقليد والحداثة؟ لم يعد في حكم الممكن والمستطاع – في نظر العروي – وبعد نصف قرن «العودة إلى المنطلق واستئناف العملية الدستورية من الصفر» (ص118). ما في الإمكان هو الذهاب إلى تأويل الدستور. وتأوليه، في حالنا، لا يخلو من أن يكون سلفياً أو ديمقراطياً. وفي الحالين، علينا أن ننتقل من الصراع على الدستور إلى الصراع في الدستور. التأويل السلفي يستثمر في مادة التقليد داخل الدستور (ص118 – 121)، والتأويل الديمقراطي في مادة التحديث (ص121 – 122). وفي نطاق هذا التأويل الأخير يستفيض العروي في بيان الحاجة إلى تأسيس النظام الديمقراطي على الديمقراطية المحلية لفك المعضلات الجهوية والثقافية (كالأمازيغية وسواها) عبر تفويض الجهات (126 – 130)، ولتمرين المجتمع على الديمقراطية في أفقها الوطني – المواطني الأعلى؛ ويعرج على النظام التمثيلي فيقدم تصوراً يقضي بإعادة صوغ اختصاصات الغرفتين البرلمانيتين على نحو جديد يلحظ الفارق بين الجهوي/الرمزي والوطني (ص134 – 139). هذا الترويض ضروري لتأسيس التربية على المواطنة، لتحقيق الطلاق مع تربية الأم، مع الموروث، للاستعاضة عنها بالتربية المدنية الحديثة (لا التعليم النظامي: حليف تربية الأم (ص147))، لأنها وحدها تفتح الطريق إلى المواطن (ص147). حينها ستصبح الأحزاب أحزاباً، لا قوى ضعيفة، مشدودة إلى ثقافة التقليد، والانتخابات انتخابات وليس تصويتاً فئوياً، والدستور دستوراً وليس بيعة مستحدثة، والمواطنون مواطنين لا رعايا. حينها، لن يحكم الواحد ببطانة، وإنما بنخبة لم تعد ضعيفة لأن الشعب لم يعد أمياً (ص146). قد يأخذ منا ذلك جيلاً أو جيلين، لكنه الأفق الوحيد المفتوح أمام التقدم والمواطنة الحق. وحينها، أيضاً، ستعود السياسة إلى حجمها الطبيعي فنتخلى عن تسييس كل شيء في الاجتماع والحياة (ص153 – 154). * * * هذا كتاب حقيقي في السياسة: غني في المضمون متقشف في القول؛ انسيابي عند كاتبه، مرهق لقارئه، متوسط الحجم طويل القامة. وفيه من التكثيف والتركيب ما يتطلب أكثر من قراءة واثنتين. وفيه من الجدة والمراجعة ما يدعو إلى إعادة قراءة موضوعات سابقة (كتاب «مفهوم الدولة»، وكتاب «تاريخ المغرب»، وكتاب «الأصول الاجتماعية والثقافية») في ضوء فرضياته واستنتاجاته. وفيه من الانفتاح على نظريات علم النفس وفلسفة الأخلاق ما لم نعهده في صاحبه. وفيه من الاجتراء على النقد ما ليس في مكن غير كاتبه. وفيه من البيان في القول والرشاقة في التعبير ما تتخفف به اللغة النظرية من أحمال التقريرية. وفيه من الصوغ النظري التركيبي ما تخجل أمامه اللغة السردية – التعليمية. ثم إن فيه من الغنى المعرفي ما يكرس العروي معلماً كبيراً في تاريخنا الثقافي الحديث. اختار من العناوين لكتابه عنوان «من ديوان السياسة»، و «من» (هذه) تفيد ما تفيده من معاني التمثيل والاقتضاب والانتقاء (المنهجي)، ولعلها تظل وفية لمعناها العيني (= من العينة) فنقرأ، بعد عام أو عامين، نصاً آخر للعروي «من» ديوان السياسة، وما أكثر ما ننتظره منه في باب هذه ال «من». * كاتب من المغرب