تسكن عشرات المريضات "مجمَّع الأمل" بمدينة "الرياض"؛ مِمَّن تنوعت أمراضهن مابين فصام واكتئاب واضطراب وجداني، بعد أن كُنَّ يعشن حياتهن بشكل طبيعي وسط أُسرهنَّ، قبل أن تتكالب عليهنَّ ظروف الحياة بشكل أقوى مما يحتملنه، فسقطن أسرى لمرضٍ نفسي عزلهنَّ عن الواقع، حيث يشعرن بأوهام وتعب وتشنُّجات عصبية تجعلهنَّ بحاجةٍ كبيرةٍ لمعاملة من نوع خاص تتناسب ودرجة حساسيتهن المفرطة تجاه كل ألم، ثم عاقبهن ذووهنَّ برفض استلامهن بعد أن منّ الله على بعضهن بالشفاء؛ مما أدى إلى انتكاسة حالة المريضة وجعلها في حال أسوأ ممَّا كانت عليه سابقاً؛ فأصبح "مجمَّع الأمل" مأوىً لهنَّ، على الرغم من الضغط الكبير الذي يعاني منه؛ نتيجة محدوديَّة عدد الأسرة والبالغة (74) سريراً فقط، وتزايد قوائم الانتظار. "الرياض" التقت بعدد من المريضات المُقيمات بالمجمع منذ سنوات طويلة، كما التقت بعدد من الأخصائيات، وعدد من المُختصين فخرجنا بالحصيلة التالية: حالات صعبة كانت حالة المريضة ( ل.غ) -نزيلة منذ ثلاثة عشر عاماً- احدى الحالات التي توحي لمن يراها للوهلة الأولى أنَّها ليست مريضة بوسواس قهري كما هو حالها في حقيقة الأمر، لقد تخلى عنها ذووها ولم يزوروها إلاَّ مرتين أو ثلاث فقط منذ أن أودعوها مجمع الأمل، كانت بشوشةً بما يكفي ليشعر من أمامها بتمام صحتها، وتحدثت عن هواياتها في رياضات "الجمباز" و"الكاراتيه" وعن شغفها بالرياضة، غير أنَّ حالها هذا لا يدوم طويلاً لتُفاجئ من يتحدث معها بعد فترة قصيرة وكأنَّها إنسانةً أخرى لا تمت للأولى بصلة، حينها تبدأ بالشكوى والتذمُّر من كونها باتت عالةً على مجتمعها ومنبوذةً من كافَّة المحيطين بها، قبل أن تلتحف بخمارها معتقدةً وجود بعض الرجال في المكان، تأمرنا بالستر وتخوِّفنا من عقاب الله مؤكدةً على أنَّها ترى ما لا نراه!. قسوة الحياة انتهت بهن إلى «فصام واكتئاب واضطراب» وبقين عاجزات عن قهر ظروفهن الصعبة ولم تكن المريضة (ن.ع) بأفضل حال من سابقتها، فهي تقيم هنا منذ ما يُقارب ثمانية أعوام؛ بسبب إصابتها بمرض "الفصام"، أوحت لنا عند الحديث معها أنَّها تعلَّمت (1000) لغة تجيدها تحدثاً وكتابة، مُضيفةً أنَّ تميُّزها وتفوقها على أقرانها كان سبباً مُباشراً في إيداعها المُجمَّع. أمَّا المريضة "ع.ن" -داعية سابقة، ونزيلة بالمجمع منذ (20) عاماً بسبب إصابتها بمرض "الفصام"-، فكانت وقت لقائنا بها تُرتِّل بعض الآيات القرآنية التي كانت تحفظها عن ظهر قلب، وطلبت حينها جلب بعض"الخواتم" التي تُستخدم في عدّ مرات الاستغفار لتقدمها هدية لأهلها الذين لم يزوروها منذ فترة طويلة، ثم وقفت في احدى زوايا غرفتها تبكي على فراق أبنائها وزوجها الذين لم يكن لهم وجود إلاَّ في مُخيلتها؛ لكونها لم تتزوج حتى الآن!. انتكاس الحالة وتُقيم المريضة(ع.ع) بالمجمع منذ (18) عاماً تقريباً، وتمَّ تأهيلها بعد عدَّة أشهر من دخولها المجمع، بيد أنَّ رفض ذويها لها أدخلها في حالتها تنتكس لتُصاب على إثرها بمرض نفسي مُزمن، وفي هذا الوقت تمكَّن والدها من الاقتران بزوجة ثانية، ولم يعد لديه وقت كافٍ للعناية بابنته، كما تخلى عنها أشقاؤها. أمَّا المريضة (ر.ف) فكانت تخرج من المُجمَّع فترة من الزمن ثمَّ تعود إليه مرةً أخرى، وما بين هذه وتلك تمكنت من الزواج وأنجبت طفلتها الأولى، ومع ذلك فإنَّها لاتزال على ماهي عليه من قبل من حيث دخولها وخروجها الدائمين من وإلى المُجمَّع. وإلى جانب الحالات السابقة، لفت انتباهنا وجود حالات أخرى داخل بعض غُرف "مُجمَّع الأمل" لمريضات كُنَّ تحت أغطية أسرتهنَّ، وقد أخذ منهنَّ التعب والوهن والأرق ما أخذ، واللافت أنَّ من بينهن من امتهنت المُحاماة إلى جانب من احترفت الكتابة، وكذلك طالبات من التعليم العام وأُخر جامعيَّات. دور الأسرة وقالت "هدى العمر" -أخصائية اجتماعية-: "المريضات النفسيات لسن فاقدات العقل، بل إنهنَّ أفراد تكالبت عليهنَّ الظروف حتى أصبحن في حالةٍ من عدم القُدرة على مواجهتها بالشكل المناسب"، مُضيفةً أنَّهنَّ بحاجةٍ ماسةٍ لاهتمام وعناية من نوع خاص، مُشيرةً إلى أنَّهنَّ جزء مهم من المجتمع لهنَّ الحق التام في القبول والتأهيل، مُوضحةً أنَّ المرض النفسي ينتج عن عوامل وراثية وأخرى بيئية واجتماعية، لافتةً إلى أنَّ عدم اهتمام الأسرة بالمريض وتجاهله منذ البداية قد يجعل حالته تصل إلى وضع متقدم وحرج يستوجب دخوله وبقاءه داخل أروقة المُجمَّع. وأضافت أنَّ مايدعو للأسف هو أنَّ العديد منهم يحضرون المريض ويتركونه دون زيارة لفترات زمنيَّة طويلة، مُبيِّنةً أنَّ بعض الحالات تمَّ تأهيلها بشكلٍ يجعلها قادرةً على الخروج والعودة إلى ممارسة أدوارها الطبيعيَّة داخل المُجتمع، بيد أنَّ ما حال دون ذلك هو رفض استلامهن من قِبل ذويهن وتجاهلهم النداءات العديدة والمحاولات المستمرة من قِبل المُستشفى لاستلامهن؛ بحجة عدم قدرتهم على رعاية الحالة والتعامل معها بشكلٍ جيِّد، الأمر الذي يجعل حالة النزيلة تنتكس وتصبح في وضع أسوأ من السابق، مُشدِّدةً على أنَّه في حال مرور فترةٍ طويلة من الوقت فإنَّ خروج النزيلة عندها يُصبح أمراً غير مُجدٍ؛ لأنَّها حينذاك لن تستطيع الانخراط في المجتمع مجدداً ولن تتمكَّن من مواجهة المُحيطين بها، وبالتالي فإنَّ بقاءها في المُجمَّع يكون الحل الأنسب لها. وأشارت إلى أنَّ هذا التجاهل من قِبل ذوي العديد من النزيلات يُثقل كاهل المُجمَّع، خاصةً في ظل محدوديَّة عدد الأسِرَّة، مُشيرةً إلى أنَّ عددها لا يتجاوز(74) سريراً، مُوضحة أنَّه ينتج عن ذلك عدم القدرة على استقبال حالات أحق بالعناية تبقى لفترات طويلة على قائمة الانتظار، لافتةً إلى أنَّ "مجمع الأمل" بحاجة كبيرة لعقد شراكات مع "وزارة الشؤون الاجتماعية" يتم بناءً عليها نقل المريضات المُسنَّات ذات الحالة المُستقرَّة إلى دار المُسنات؛ وذلك لتخفيف العبء على المُجمَّع. لسنا دار إيواء! وأيَّدتها في ذلك "وفيَّه الهايف" -أخصائي أول خدمة اجتماعية-، مُضيفةً أنَّ عملها في "مجمع الأمل" منذ ما يزيد على تسعة أعوام جعلها تتأكَّد من أنَّ ما يصل إلى (70%) من علاج حالات الإدمان والمرض النفسي تعتمد بشكل أساس على اهتمام الأُسرة بحالة المريض، مُوضحةً أنَّ للأسرة دورا كبيرا في الوقاية من المرض واحتواء المريض ومنع انتكاسة حالته، داعيةً إلى اللجوء إلى ما يُعرف ب"قانون الصحة النفسية"، إلى جانب عقد شراكات مع "وزارة الشؤون الاجتماعية" و"المحاكم الشرعية" لسن قوانين تُلزم ذوي المريض باستلامه من المُجمَّع عقب تماثله للشفاء وتأهيله بشكل يجعله قادراً على الانخراط في مُجتمعه من جديد، إلى جانب حمايته من كافَّة الأمور التي قد تجعله عُرضةً للعودة إلى ما كان عليه سابقاً، منتقدةً من يعتقد من الأهالي أنَّ المُجمَّع بمثابة دار إيواء وليس مكاناً للعلاج والتأهيل للمرضى. جوانب إنسانية وبيَّن "د.عبد الحميد الحبيب" -مدير عام الخدمة النفسية والاجتماعية بوزارة الصحة- أنَّ المرضى النفسيين الرجال يعانون بشكلٍ أكبر من النساء في هذا الجانب، مُضيفاً أنَّ ما يدعو للأسف هو أنَّ العديد من الأهالي يتخلون عن بناتهم، مُوضحاً أنَّ "وزارة الصحة" تؤمن أنَّ حل الموضوع لا يمكن عبر إصدار قرارات مُلزمة، بل من خلال تقدير ظروف الأسرة والتعامل مع الجوانب الإنسانية والطبية، إلى جانب إيجاد البدائل، وكذلك إعادة الدمج، إضافةً إلى تعزيز الثقة بين المستشفى والأُسرة، مُشيراً إلى وجود العديد من الحلول الأخرى في هذا الصدد، ومنها برامج الرعاية النهارية والزيارة المنزلية، لافتاً إلى أنَّه في حال ثبت وجود عدم مبالاة من قِبل الأسرة للمريض أو إهمال حالته، فإنَّه يتم فوراً إعداد تقرير يتضمن جميع الخطوات التي تمَّ اتخاذها، على أن يُرفع للجهات المعنيَّة؛ من أجل اتّخاذ التعهُّدات اللازمة التي تضمن حماية المريض وحصوله على الرعاية الطبية والاجتماعية المُناسبة. وأضاف أنَّه متى ماكانت الأسرة غير قادرة على رعاية المريض أو في حال عدم وجود أسرة للمريض تكون قادرةً على رعايته، فإنَّ هناك دُور إيوائيَّة خاصَّة بهذه الفئة، مُوضحاً أنَّ "وزارة الصحة" تهتم بهذه القضية، وتعمل على إيجاد هذه الدُور والتوسُّع فيها، مُشيراً إلى أنَّه لابُدَّ من دراسة كل حالة على حده؛ وذلك لاختلاف ظروف الحالة من الناحية الطبية والاجتماعية من شخصٍ إلى آخر، لافتاً إلى أنَّ هذا يُحتِّم أن يضع الفريق المعالج خطَّةً علاجيةً وتأهيليةً متكاملة تُراعي مختلف الظروف المحيطة بالحالة. مراجعة الأنظمة وأوضح "د.إبراهيم الشدي" -المتحدث الرسمي باسم هيئة حقوق الإنسان- أنَّ الهيئة تتابع مدى تطبيق الأنظمة ومدى توفُّرها حيال قضايا حقوق الإنسان، وإذا ما تبين لها من أيّ مصدر معلوماتي وجود انتهاك لحقوق الإنسان ونقص في الأنظمة، فإنَّها تتصل بالجهات المعنيَّة وتتواصل معها؛ لإيجاد حل لهذه المشكلة وسن قانون يحمي الجميع، مُضيفاً أنَّ "وزارة الصحة" و"وزارة الشؤون الاجتماعية" معنيَّتان بتوفير العناية اللاحقة للمرضى، مُشيراً إلى وجود حاجة فعلية لمراجعة الأنظمة فيما يخص تعاون الأسر مع مستشفيات الصحة النفسية، لافتاً إلى أنَّ "هيئة حقوق الإنسان" تعمل على إيجاد تنظيم يساعد المستشفيات على أن تستجيب الأُسر، ويساعد الأُسر في أن تكون قادرة على الاستجابة، راجياً أن تتعاون "الهيئة" مع "وزارة الصحة" في إصدار أنظمة تخدم هذه الفئة التي تستحق كل عون ومساعدة، مُؤكِّداً على أنَّ هذه الفئة من المرضى تحظى بعناية كبيرة من العديد من الجهات المعنيَّة، مُبيِّناً أنَّ "إمارة منطقة الرياض" كانت طلبت في سنوات سابقة إنشاء لجنة للصحة النفسيَّة؛ وذلك نظراً لتعدُّد الجهات، حيث تمَّ إنشاء اللجنة للعناية بمرضى الصحة النفسية وأسرهم، مُشدِّداً على أنَّ "دار الإخاء" التي أنشأتها "وزارة الشؤون الاجتماعية" تُعدُّ خطوةً جيِّدةً في هذا الجانب، بيد أنَّ أدوارها -للأسف- لا تزال محدودة وقاصرة على الرجال، في الوقت الذي توجد فيه حالات نسائيَّة مماثلة. تتحمل أسرة المريضة نفسياً مسؤولية دمجها مع المجتمع المرض النفسي يترك المرأة عاجزة عن مواجهة صعوبات الحياة د.عبدالحميد الحبيب د.إبراهيم الشدي